ابن الراحل الزبير يكتب: في ذكري رحيل زبير الخير.. اخضر الضراع واليراع بين أرضين وتحت سماء

الجمعة اليوم الثامن عشر من رمضان ١٤٤٢ .. اللحظة مهولة و ثقيلة و محتشدة بالمشاعر حتي لاتكاد تميزها عن بعضها. لكن خيطها الناظم واضح تماما فقد كانت بملامحها المتنكرة تتويجا لما قبلها من لحظات الجحود المتصلة لمايزيد عن عامين.. و لا شكاة لنا فنحن ابناء الزبير و اخوانه و رفقة درب رجل ٍ- يشيل فوق الدبر ما بميل – لطالما كان همُ البلاد اكبر عنده من هم الذات.. و لا بكاء لنا حينها الا علي ارض أجدبت و نسيت كيف تدع ما ينفع الناس يمكث فيها، بعد أن اذري بها القحط فعجزت عن ان تميز الخبيث من الطيب.

و الامام يصعد المنبر للصلاة كانت روح ابي تصعد الي بارئها .. و آخر كلمات في فمه كانت آياتٍ من كتاب الله .. يمر علي مختلف سوره كانه يصافحها و يمسك بها و يصعد آية بعد آية .. فان كانت حياة الناس تطوي امامهم في لحظاتهم الاخيرة فقد طوي كتاب الله امام ذلك العقل و الجسد الذي لم يمل من مجالسته و العمل علي العيش به طوال حياته .. اطلق سراح ابي ! وهو يناجي سماء تظله بحنو، بعد ان ابت ارض القحط المجدبة ان تقله .. اطلق سراحه الي رحاب ربه و خرجنا معه نتلفت و نبحث عن ارضٍ تعرفه و يعرفها علها تُقلُه الي مرقده البرزخي..
لم ننتظر طويلا، فما لبث النداء أن ياتي بان ارضا أخري هناك .. أرضٌ لاتنسي جباه الساجدين!.. و ان نسي من نسي .. و تبدأ لحظات اخري .. خيطها الناظم العرفان و الحق و الشجاعة .. الوالد الشيخ الطيب الجد يتصل ليستأذن في الصلاة عليه .. و بينه و بين أبي مودة نعرفها .. لكن ما كل اصحاب المودة يظهرون في هكذا لحظات .. بل قد غاب اكثرهم منذ زمن !.. و البلاد تمور بالبغضاء و تموج بالاتهامات الباطلة لكل ماهو اسلامي .. حسناً! هاهي الارض التي لا تنسي تتبدي الآن .. فكما غاب آخرون برز الشيخ الطيب الجد .. جاء وهو لايعلم كم من الناس سيشيعون زبير الخير . ولايعلم هل سيبدو وحيدا وسط قلة من ابناء الزبير و اخوانه و عشيرته أم اماماً جليلا وسط حشود ضخمة تكون منعة له، وهي تهمهم و تترنم (الارض لاتنسي غراس الطيبين )..

و في هذا الموقف تبيان لفرق كبير بين القادة و المهرجين! فالقائد الحقيقي ليس عرضاً متصلا لما يطلبه الجمهور، بل هو من يسلك السبل بقومه علي وعورة تقبلهم لها، وهو الرمح الذي يشكُ سدول الظلمة، و يبقر بطن الباطل ليخرج منه الحق .. هذه ارضٌ لا تنسي .. هكذا قالت اللحظة .. كما لم تنسي أن ترسم مسحة من امل علي وجه البلاد رغم القحط الكالح.. اذ ما يزال بعضاً من المجتمع فيها قادرا علي ان يتجاوز السياسة و يسمو بالمواقف ذات الشرف و الحكمة. و الامة التي يعجز مجتمعها عن رفد السياسة و توجيهها هي امة مهددة بالانقراض.
فطوبي لاهل التصوف و آنيتهم تنضح بالحق و الحقيقة، حين يعجز أدعياء الثقافة عن ان يتبينوا خيط المجتمع الابيض من خيط السياسة الاسود.

نخرج بعدها من المصلي، و الارض التي لاتنسي تأبي الا ان تتبدي و تعلو و تبرز في حشود طوقت البراري كما لم تطوق قبلاً .. نمشي وسطها و نبتسم وسط بكاء مر، و القلب يترنم بنشيد المادح (نااازل عرقو .. جوه الارض .. حفر مااا بمرقو .. اللالوب.) فالمشهد و الحشد الضخم يهزأ ممن ينسي ان المد الاسلامي حقيقة مجتمعية، وهو ليس الا استجابة لهويً حق و هويةٍ مركوزة في نفوس قطاع واسعٍ من السودانيين. و لن يكون بث الكراهية ابدا سلاحا لدحر الاسلاميين، بقدر ما سيطلق حربا مجتمعية تضعف البلاد و تضعضع صفها فينال منها عدوها قبل ان ينالوا هم من الاسلاميين لكن اني لمقتولة الفكر و الضمير ان تسمع صائحة وعي التاريخي عبرته.

لقد عشنا طويلا و شاهدنا من موقع البيوت و الاسرة و المجتمع لا من موقع التنظيم و مسالكه، كيف ان علاقة الاسلاميين بالمجتمع و قطاعاته هي علاقة عضوية حقّة قبل ان تكون اصطفافا سياسيا او تحشيديا.. علاقة قوامها لغة مشتركة و اخلاق متحدة و ثقافة متجانسة .. ننظر في الحشود وجها وجها و نعلم مابين اكثرهم و بين الزبير من محبة و مواقف.. و نسمع لممثل مولانا الميرغني و كلماته المنظومة تتحدر .. لتبين من هو الزبير و من اين جاء.. فحاله كحال كثيرين عاشوا بين الناس فأحبهم الناس و قدموهم .. ما جاء اليها من تحت ازيز الطائرات و لامن بين همسات القول الخاضع في السفارات .. بل جاءها منذ نعومة الاظفار أو قل خشونتها الاولي .. من الثلاثية الراسخة، الخلوة و الدار و الجرف.. جاءها من النهر و الصخر و السنبلة كما قيل. و قديما! في صغره! بدأ و اخوة له قيادة تحول و نقل للثقل المجتمعي من صفوة الحضر و افنديته الي عموم الارياف و اعماق المجتمعات البسيطة .. و من الارتهان للاجنبي الي الاستقلال بالرأي ..عمل بجدٍ نخجل امامه كجيل و نجلُهُ و عديد من اخوانه ..فقد اصابوا و اخطاوا لكنهم لم يخونوا ابدا .. منهم الاخيار، و بينهم كغيرهم الأشرار .. وقد ينسي أكثر الناس اخيارهم .. لكن الارض لاتنسي جباه الساجدين .. لاتنسي غراس الطيبين..
نكتب في الذكري الثانية لرحيله و ما يزال عدد من اخوته المظلومين بالسجون .. و لاشكاة لنا الي أحد فلن يسمع احد .. غير ان علي رهطهم من الاسلاميين أن يعلموا أن الحق أبلج و ان ساد غيره .. و أن مشروع الارض التي لاتنسي .. هو اول الطريق، و الاحياء احوج له تبيانا كما الاموات عرفانا .. و المجتمع و الوطن أحوج له من حيّنا و ميّتنا.. اذ بدونه تنحل عرانا و تذهب ريحنا .. ان ارضا جديدة لا تنسي ابدا .. أرضاً يمكث فيها ما ينفع الناس .. كلهم .. هي ما يجب ان يفلحها الاسلاميون و غيرهم من ابناء السودان .. و ان نسي اي فريق، الاخيار من أبناءه الاقربين .. و نسوا الخير الذي شادوه كغيرهم من قطاعات الشعب و رجالاته عبر التاريخ.. ولم يذكر الا العثرات.. فهم لما سوي ذلك أضيع .. و عن تشييد مجد جديد اعجز .. لا تنتظروا موتهم لتصدحوا بحقهم و خيرهم عظُم ام صغر .. فالارض التي لايمكث فيها ما ينفع الناس أرضٌ ليست جديرة بالعيش فيها .. هكذا قالت تلك الحشود .. و قالت سيرة زبير الخير .. للاسلاميين و لسواهم.. ان اضعف الايمان ان تزوروا اهلهم و تتفقدوهم ثم تزوروهم هم و تستمعوا اليهم و الي عبر تاريخهم و دروسه و ذاكرة تشييد الخير و تهديمه و افخاخ الشر و تجاوزها ايذانا و بشري بموسم جديد.

اللهم تقبل أبي و شيخي و معلمي حيا و ميتا .. اللهم ارحم زبير الخير كما كان رحيما بالناس .. و اجعل رحيله و رحيل آخرين ظلما، آخر مقتلة ظلم في اروقة السياسة في السودان، و اجعل رحيله المهيب و ذكراه أول خطوة و بذرة في استصلاح أرض السودان ليمكث فيها ما ينفع الناس و يسلم و يأمن فيها من يخدمهم.

محمد الزبير أحمد الحسن -١٨ رمضان ١٤٤٤
الذكري الثانية لرحيل زبير الخير

Exit mobile version