ليلة القدر ونوال وجعفر الدريويش.

المقال الثامن عشر، من (سلسلة مقالات من وحي رمضان 1444).
لقد تبين لي بأن هؤلاء الدراويش ماخلقهم الله الا لخير فيهم يفيض على من حولهم، ولغاية يعلمها هو سبحانه…
ولا اخال قرية أو مدينة الا وفيها درويش…
كم لهذه الشخصية من بصمات في وجدان الناس!…
كنت خلال صباي أظن السبب في وجود هؤلاء الدراويش انتفاء العناية الطبية، لكنني أستبعدت ذلك لاحقا عندما وجدت ذات الشخصية في العديد من دول العالم خلال اسفاري العديدة، وكلهت دول لا تفتقر إلى العناية الطبية، فتبين لي جليا بأن الأمر قدر مقدور من رحمن رحيم…
ما كان مني إلا أن جلست أسائل نفسي بين يدي حديثٍ شريف لنبينا صلى الله عليه وسلم يفيد بأن الله لأرأف بعبده من الشاة بوليدها، فامتلأتُ يقينا بأن هؤلاء الدراويش أحبابٌ للّه، وفيهم من الأسرار والخبايا ما الله به عليم…
قرأت في صباي كتابا وجدته في مكتبة الوالد رحمه الله للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إسمه (عبيط القرية)، يتحدث الكتاب عن رجل مفعم بالروحانية، تجد الإيجاب في كل حراك يقوم به وهو يتفاعل مع الناس من حوله، ثم قرأت عن زين طيبنا الصالح رحمه الله في روايته (عرس الزين)، الزين الذي ما ان تقع عيناه علي صبية من صبايا القرية إلا ويُلقي الله حبها في قلوب الشباب، فينفتح لها باب الزواج علي مصراعيه!…
واذا بي -من بعد ذلك- كلما قرأت سورة الكهف ومررت على قصة الرجل الصالح وموسي عليهما السلام؛ أتوقف مَلِيّا بين يدي أفعال الخضر عليه السلام؛ من خرق للسفينة، وقتل للغلام، ثم إقامته للجدار!، فالقصة بالرغم من يقيني الراسخ أنها تحكي عن تفاصيل القضاء والقدر والفرق بينهما؛ إلا إنني تبينت في ثناياها أسرارا ممتدة وعوالم من أنوار ترفرف في فضاءاتها الأرواح بأجنحة من خيوط النور…
واسمحوا لي أن أحكي لكم عن قصة نوال وجعفر الدريويش، إنها قصة حدثت في إحدى القرى التي تقع على شاطئ النيل في اتجاه الشمال من قريتي البركل.
نوال هي الثانية من بعد شقيق يكبرها، وتليها شقيقات خمس، وآخر العنقود جعفر، خرج إلى الدنيا بضمور في المخ ليعتاد الناس تسميته بالدريويش منذ طفولته.
نشأت الأسرة كسواها من الأسر في شمالنا الحبيب على الكفاف، ولم يكن مصير نوال بأفضل عن العديد من بنات جيلها خلال السبعينات ممن تركن الدراسة في مراحلها المختلفة، أو لم يدرسن منذ البدء، فهي إن تساوت معهن في سمت المسغبة؛ إلا إنها تزيد عليهن بطول ملازمتها لأمها طريحة الفراش جرّاء مرض عضال، وما لبث أن سافر شقيقها الأكبر إلى ليبيا وانقطعت أخباره، وعندما طالبتها أدراة المدرسة الثانوية إيفاء مصاريف الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية (على قلتها)؛ لم تستطع إلى ذلك من سبيل، فأخوها الأكبر -قبيل سفره- لم يدع لهم شيئا ليباع ويُنتفع بثمنه، وما بقي بيد والدها من مال لم يعد يكفي قيمة الدواء الذي يبتاعونه كل شهر لأمها…
في ذلك اليوم بكت نوال ما شاء الله لها أن تبكي، فإذا بالدريويش ينظر إليها في محبة مواسيا ويقول:
– ماتبكي يانوال، الله في…
وظل يهزج بها:
اللّه فيه …
اللّه فيه…
اللّه فيه…
أراح ذلك نوال كثيرا، وظلت تردد (اللّه في)، إلى أن أرخى عليها النوم سدوله…
نوال كانت قد منّت نفسها بأن تصبح يوما معلمة تنير عقول النشئ لتستعين بمدخولها على رفعة شأن أسرتها وكذلك القرية، لكن ذهب كل ذلك ادراج الرياح، وذوى الأمل، وتراجعت ميمه فتذيّل التوصيف ليصبح ألما يعتلج في قلبها سرمدا…
قالت لها أمها يوما:
– جعفر دا مااااا تستهونوا بيهوا يانوال يابتي، جعفر دا فيهو سرا كبيييير والله!…
تركت نوال المدرسة مجبرة لتتفرغ لأشغال البيت، ولم تكن تكلّ أو تملّ، بقيت كالشمعة تذوب لتضئ لبقية أفراد الأسرة حياتهم، وانشغلت بممارضة والدتها المصابة بالسرطان، ولم تألُ جهدا في تلبية احتياجات والدها السبعيني الذي ظل برغم وهنه يعمل في فلاحة أرضه الصغيرة التي بقيت، وتناست نوال نفسها مع حراك حياة شقيقاتها الخمس، يضاف إلى ذلك إهتمامها بحياة شقيقها الأصغر جعفر الدريويش، فكانت تحرص على البحث عنه كل مساء لضمان مبيته في المنزل، ظلت تفعل كل ذلك بقلب محب ورؤوم…
وما أن مر عام حتي تزوجت شقيقاتها الخمس، ولكن شاب الأفراح شئ من حزن برحيل والدها،
وانتقلت شقيقاتها مع أزواجهن إلى مناطق أخرى في أرجاء هذا السودان الفسيح، ولم تسع نوال إلى الاثقال على شقيقاتها للصرف على المنزل وقد اعتدن إنجاب التوائم، ومعلوم رهق القيام بشؤون التوائم من ارضاع واشراف، ولم يكن ازواجهن ميسوري حال…
سعت نوال إلى البحثت عن عمل للصرف على نفسها وأمها وجعفر، فوجدت ضالتها في نسج الطواقي وعمل السلال والبروش من سعف النخيل، تعينها والدتها طريحة الفراش بنقع الزعف والتوجيه، وشرعت كذلك في صنع الطعمية والزلابية لبيعها لطلبة مجمع المدارس القريب، ووجدت صبيا من الأعراب الوافدين أوكلت له فلاحة الأرض الصغيرة، وظل جعفر بجوارها يعينها بهمة ونشاط وهو يمتطي جريدة نخل او يرجز بكلام يحرص على دوزنته دوما، وانفرج الحال قليلا، فامتدت هبات نوال وعطاياها إلى شقيقاتها الخمس من خبيز وتمور واحتياجات رمضان كل عام، أصبحت لهم أُمًَّا كي لا تشعرهن بمنقصة دون الأخريات، وبقيت أمها ترقب كل ذلك وهي على فراشها فترفع كفيها ضارعة إلى الله بأن يعوض نوال وجعفر خيرا…
كانت الابتسامة تزين دوما وجه نوال وهي كالنحلة في حراكها، وعندما يأتي الليل تنشغل بامها المريضة، فلاتنام إلا النذر اليسير منه، قال لها جعفر يوما وهو يهزج:
نومك قليل…
نومك قليل…
نومك قليل…
فسألته، لكن أسوي شنو ياجعفر؟!
فأشار بيده إلى منزل شيخ وراق المجاور، والذي اعتاد قيام الليل والتلاوة، حيث يصلهم صوته قبيل الفجر…
وفهمت نوال مراده فبدأت تقيم الليل وتقرأ صفحة من كتاب الله كل ليلة، ثم تدعو الله ماشاء لها من دعاء وهي تبلل حِجْرها بدموع الرجاء، وظل الدريويش يرصدها من تحت غطائه وهو يشارك أمه الفراش…
أكملت نوال حفظ كتاب الله خلال سنوات ثلاث، وجاء رمضان الرابع فتفيئت كما اعتادت ظلال العشر الأواخر منه تزيد من عبادتها وتلاوتها، وفي ليلةٍ وترٍ من لياليه العشر؛ إذا بها ترى كل شئ يخر ساجدا لله، والملائكة تُحَوِّم داخل الغرفة يقرأون سورة الرحمن! …
فهتف بها هاتف:
– يانوال، يانوال…
هذه ليلة القدر، ادعي الله بماشئت.
فاشتد وجيب قلبها، وتعالت منها الأنفاس وكأنها هاجر تهرول المسافات الطوال بين الصفا والمروة، وتلعثم منها اللسان، فإذا بصوت الدريويش يأتيها من عَلٍ:
– نوال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، فرددت من خلفه ذلك مرات ثلاث، ونظرت إلى فراش امها فإذا هي نائمة لوحدها، ولم يكن للدريويش من أثر!
قفذت نوال وجِلَة إلى خارج الغرفة، فإذا بجعفر الدريويش يرتفع عن الارض على مستوى بصر الرائي وقد اعتمر له جناحين!..
ياللنور الباهر الذي يشع من وجهه!، وياااااللابتسامة الوضيئة التي ترتسم على محياه!…
قال لها جعفر -من علٍ- بلغة فصحى لم يعتد الحديث بها وهو يرفرف بجناحيه:
– يانوال، أنا ذاهب إلى ربي لأجاور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنان، وقد سبقتني أمنا قبل قليل، فلا تحزني ياأختاه…
فصاحت به:
– سوقوني معاكم…
قال لها وقد تهلل وجهه أكثر:
– لا تحزني يانوال، أدعي الله ياشقيقتي، فإن الله قد كتب لك الرضى والسعادة في الدارين.
فأجابته وهي تبكي:
– لكن حتخلوني براي؟!
– لا لن تصبحي وحيدة، ستتزوجين بإذن الله، وستنجيبين البنين والبنات، ولكن عديني بأن لا تنسين تسمية ابنك البكر باسمي، ثم علا واختفى…
عادت نوال مهرولة إلى الغرفة لتجد والدتها فارقت الحياة، فثقل خطوها، وسقطت على الأرض ترتعش من هول الموقف، وتذكرت الدعاء الذي أوصاها به الدرويش، فدعت الله به مرارا، واظلمت الدنيا في عينيها…
فتحت نوال عينيها فوجدت نفسها طريحة الفراش وحولها بعض نساء الحي:
– أنا وين؟!
فأجبنها بأنها في مستشفى كريمة، وأن الله كتب لها عمرا جديدا بعد أن بقيت غائبة عن الوعي لأيام، وقمن بتعزيتها لوفاة أمها، ثم سمعت بهن يتهامسن بان الناس قرروا أن لايخبروها عن الدريويش الذي أختفى ولا يجدون له أثر، فلم تعر ذلك اهتماما، فهي تعلم مكانه يقينا…
واجتمع شملها بشقيقاتها الخمس اللائي جئن لتلقي العزاء ومواساتها في وفاة أمهن، ثم أقبل عيد الفطر…
وقبل أن تسافر شقيقاتها تقدم لها قريب لهم يعيش في بورتسودان توفيت زوجه قبل عامين…
قال (فيصل) الذي قُدِّر له أن يكون زوجا لنوال:
– والله منذ أول ليلة أفضيت فيها إلى نوال؛ بارك الله لي في كل شئ!!!…
كان لي كشك صغير فقط، فأصبح لي من المحال التجارية ثلاثا، وما شرعت في صفقة الاّ وبارك الله لي فيها أضعافا مضاعفة!!…
وأصبحت نوال زوجا لأغنى تجار بورتسودان، وأنجبت العديد من الأبناء والبنات، ولم تنس أن تسمي أولهم بأسم جعفر…
ومافتئت يدها ندية بالعطايا إلى شقيقاتها، بل إلى أهل القرية قاطبة.
وإلى اللقاء في المقال التاسع عشر لن شاء الله.
adilassoom@gmail.com

عادل عسوم

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version