-1- لم تكن مُفاجئة بالنسبة لي ردود الفعل العاصفة التي ترتّبت على بوست كتبته أمس بصفحتي على الفيسبوك، تعليقاً على ما حدث بإستاد القاهرة في مباراة الهلال السوداني والأهلي المصري من شتائم وبذاءات.
كنت أعلم أنّ ما كتبته في عين العاصفة سيغضب الكثيرين من الأصدقاء والقُرّاء، وسيفتح الباب واسعاً للمُتربِّصين، وسيسعد الشامتين، ويفرح المشّائين بنميم.
ومع ذلك، اخترت خيار الكتابة والتعليق والتعبير عن القناعة مهما كانت صادمة للبعض أو غير مُتوقِّعة لآخرين.
كتبت في البوست:
إنتو يا جماعة دايرين الحق واللاّ ود عمه؟!!
ما حدث في إستاد القاهرة بكل قبحه وبذاءته المُدانة والمرفوضة ،هو رد فعل متجاوز لأفعال استفزازية تعرّض لها فريق الأهلي المصري في زيارات سابقة إلى الخرطوم.
-2-
القناعة التي ظللت أؤمن بها أن تقول كلمتك، وتُعبِّر عن قناعتك دون أن تخضع ذلك لحسابات المنفعة والضرر الشخصي، ولا لظرفي الزمان والمكان، ومَن سيرضى ومَن سيغضب؟.
كثيرون يظنون أنّ النفاق هو فقط، تملُّق أصحاب المال والسُّلطان بمعسول القول وكثير الثناء، ودلق ماء الكرامة والكبرياء تحت أقدامهم.
النفاق الأكبر أن تفعل عكس ذلك تماماً، بأن تشتم وتنتقد وتسيئ، لا لشيءٍ سوى ليقال إنّك (شجاعٌ)، هذا هو مقصدك ومبتغاك.. وعلى بابه ربحٌ وفيرٌ وثناءٌ عاطرٌ!
والنوع الثالث هو النفاق الخفي، أن تصمت عن قول ما تراه حقاً، خوفاً من أن يُساء فهمك أو يُشتبه في نواياك، فتختار السلامة على نظرية حفظ اللسان والحصان وإغلاق الأبواب من الرياح والمشي جوار الحيط.
وقد تصبح في بعض المواقف مُتواطئاً بالصّمت مع وضع تراه مُختلاً أو حالاً تحسبه أعوج أو مائلاً.
كنت أعلم يقيناً، مُحتوى الاتهامات الجاهزة والمُعلّبة التي ستقذف في وجهي في مثل هذه المواقف من عَمَالة وارتزاق وشُعُور بالدونية تجاه المصريين.
ولن أجد نفسي في حاجة لاجترار كتابات أرشيفية سابقة لي في الرد على تطاول الإعلام المصري، ولا الإشارة لمُناقشات ساخنة بيني وعدد من الزملاء الصّحفيين من جنوب الوادي، منشورة على المواقع عن قضية حلايب وسخف بعض الإعلاميين المصريين.
ربّما المطلوب توضيح أنّ وجهة نظري ليست ذات صلة بالانحيازات الرياضية ما بين المريخ والهلال، فقد كتبت قبل المُباراة بيومين في صفحتي على الفيسبوك:
(عاتبني صديقٌ مريخابيٌّ على مُساندتي للهلال في مبارياته الأفريقية، والهلال هو من حرم المريخ من اللعب داخل الوطن وجعله لشهرين خارج الديار بين المطارات والمطر كما قال ريكاردو). قلت لصديقي العزيز: (أنا أشجِّع هلال السودان وليس هلال أم درمان).
وأكرِّر اليوم، إنّ في كثير من المرات كانت الاستفزازات الرياضية للفرق المصرية، تبدأ من السودان وليست مُرتبطة فقط بمباريات الهلال، وما حدث في مباراة مصر والجزائر عام 2010 أوضح مثال.
-4-
نعم، تُوجد مجموعات سودانية ذات صوتٍ مُرتفعٍ، تتّخذ مواقف شبه عدائية تجاه مصر، وذلك منذ بواكير الاستقلال.
وهُنالك من الجيل المُعاصر، من لهم مواقف سافرة في الهجوم على مصر الرسمية والشعبية معاً.
ارتفعت هذه الموجة في السنوات الأخيرة مع التصعيد المُتبادل، خاصّةً بعد احتلال حلايب، وقضيتي الفشقة ومياه النيل، مع احتمال تدخُّل طرف ثالث!
تحت ضغط تلك الأصوات، انحسر في السُّودان التيار الدّاعي لعلاقات اتحادية أو تكاملية مع مصر، حتى أصبح الحديث بصورة موضوعية عن أهمية العلاقة السليمة بين البلدين، مُدّعاةً للتخوين والاتّهام بالعَمَالة!
والراجح بالنسبة لكثيرين غيري، ما ساعد على ذلك، هو ما أشار إليه الدكتور مصطفى الفقيه في إحدى إفاداته التلفزيونية.
الفقيه عَاب على الحكومات المصرية، سياسة التعامُل مع السُّودان، كملف أمني، تُديره المخابرات.
نعم، هذه الوضعية الشاذة التي تتقدّم فيها المخاوف على المصالح، انعكس مردودها سلباً على العلاقة توتُّراً دائماً وسُوء ظن.
-5-
لا يغيب على المُتابعين أنّ الجمهور المصري وخاصّةً جمهور الأهلي في غالبه شديد التعصُّب، والإساءات والشتائم والبذاءات تجري على لسانه في المباريات المحلية دُون حرجٍ، بكل سُهولة ويُسر واعتيادية، وفي أعرافهم أن (الشتيمة ما بتلزاش)!
وحينما تذهب إلى القاهرة في زيارة، تجد في بعض المناطق من الصعوبة حماية أُذنك وآذان أسرتك من التلوُّث السمعي.
الشتائم والإساءات وقعها لدى كثير من المصريين يختلف عن صداها عند كثير من السُّودانيين، فمن السُّودانيين من لا يجد رداً على الإساءة سوى بالضرب والقتل.
لذا، تجد غالب قضايا القتل في السُّودان مُرتبطة بالاستفزازات المُفاجئة والإساءات الجارحة.
أما في مصر، فالجرائم في غالبها ذات صلة بالخلافات والأطماع المادية، والشرف!
-6-
كتبتُ استراحة قبل سنوات بأخيرة العزيزة (الرأي العام)، تحت عنوان (مصر مسرح كبير)، لم يعجب العنوان الأستاذة الفاضلة أسماء الحسيني، فقالت لي بطريقتها المصرية الساخرة: (أمّال السودان إيه يا ضياء؟ سيرك؟!).
يجب أن نتجنّب الإساءة في أيِّ حدود كانت، والاعتداء على الآخرين ولو بكلمة أو حجر أو قارورة ماء.
وإذا فعلنا ذلك مرة أو مرّتين وأكثر، علينا ألّا نتوقّع غير ما حدث بكل سوئه وقبحه وبذاءته، وفي مثل هذه الحروب الهوجاء لا تتوقّع من خصمك، أن يقاتلك بالمناديل والورود ..!
ضياء الدين بلال