رمضان ومخموم القلب

المقال الحادي عشر
من (سلسلة مقالات من وحي رمضان1444)
قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد.
(حديث صحيح).
وخممت البيت إذا كنسته.
فالمعنى أن يكون قلبه مكنوسًا، يعني منظفًا، من كل ما سوى الله، وما لا يحبه، منظفًا من الأخلاط والأقذار، سليم القلب؛ كما قال الله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء 89.
(من كتاب مشكاة المصابيح
سلامة القلوب). إن تشكيل الوجدان، والتصالح بين الظاهر والباطن، لهدف أساس ومطلب أصيل لدين الله، وبذلك يأتي المؤمن إلى الله بكامل التقوى وبقلب سليم.
يقول الإمام ابن القيم في كتاب إغاثة اللهفان:
القلب لا تتم له سلامته حتى يسلم من خمسة أشياء:
1- من شرك يناقض التوحيد.
2- وبدعة تخالف السنة.
3- وشهوة تخالف الأمر.
4- وغفلة تناقض الذكر.
5- وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
وهذه الخمسة حُجبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة وتتضمن أفراداً لا تنحصر.
انتهى.
ورد في كتاب سير أعلام النبلاء:
دخل الصحابة على أبي دجانة الأنصاري رضي الله عنهم وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين؛ كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: كان قلبي للمسلمين سليمًا.
فمن سلم صدره فقد أنعم الله عليه بنعيم أهل الجنة وهو في الدنيا..
ليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن يا أحباب، فيه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس، وتكدر البال، وتتعب الجسد. وحسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الالفة والمحبة في المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا…).
قال لي احد الاصدقاء من القضاة:
خلال أكثر من أربعين عاما من عملي كقاضي تبين لي أن اكثر من 85% من القضايا التي حكمت فيها كان سببها الأساس سوء ظن لم يكن في مكانه، وتفسير خاطيء لكلام وصل إلى أحد اطراف القضية من الطرف الآخر فأساء فهمه وأوغر صدره!.
ليتنا لا نترك موجدة في قلوبنا ضد أحد.
سامح…
واغفر…
وتجاهل…
وتغافل…
وأحسن الظن بالآخرين…
وإن لم تجد عذرا لأحد فقل: لعل له عذرا لا أعلمه…
ولا يصدنك الشيطان وهواك عن ذلك؛ فالحياة لحظات تستحق أن تعيشها براحة، وترحل عنها بلاضرر ولا اضرار..
مجرد ابتسامة وقلب نظيف ونفس سمحة تجعلك تستمتع وتطمع في رضوان الله، وتعيش جمال الحياة…
ومن أسباب سلامة الصدر يا أحباب، التعلق بِالآخرة الباقية والبعد عن الاغترار بِالدنيا الفانية: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الدنيا همه فرق اللهُ عليهِ أَمْرَهُ، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إِلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمَّعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ، وجعل غناهُ في قلبه، وأتتهُ الدنيا وهي راغمة)
(صححه الأَلباني).
ومن أسباب سلامة الصدر: المحافظة على أداء الفرائض وَالمداومة عليها، والإِكثار من النوافل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
والأولياء ليسوا هم أهل القبور كما يظن العوام، انما العلماء والفقهاء ومن تراضى عليهم الناس ليكونوا لهم أئمة في بيوت الله، وبحمد الله لقد كانت غضبة أهل السودان عاصفة في وجه المسلسل الذي عكف عليه دعاة رفض الدين وفصله وصدر القرار بمنع بثه.
ومن أسباب سلامة الصدر: تلاوة القرآن وتدبره؛ فهو دواء لكل داء، وشفاء تام من جميع الأدواء البدنية والقلبية، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}الإسراء 82.
وقال تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الأمر 23
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: إِفْشَاءُ السَّلاَمِ؛ عن أَبِي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أما العمدة في مجاهدة النفس لسوقها سوقا إلى التقوى؛ فهو الصيام ورمضان، ودوننا الآية الكريمة التي اعتدنا ايرادها في كل المقالات الفائتة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة 183
وقد ثبت في علم النفس السلوكي أن اصحاب الصدور المسكونة بالنزعة إلى الخصام مع الناس هم أصحاب القلوب غير المتصالحة، هم الذين يفسرون كل قول او تصرف تجاههم بالسلب والسوء، تعتور نفوسهم على نقص ومهانة، وكذلك من فيهم كبر، فتكون ذات المهانة في دواخلهم سببا يسوقهم إلى الخصام مع جل من حولهم إن لم يكن كلهم، يقول أحد الصحابة رضي الله عنه:
ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه.
ما أعظم هذا القول يا أحباب!
لعمري إنه حقيقة يتبينها كل سابر لغور المتكبرين.
اللهم لاتجعل للكبر في قلوبنا مكانا، واصلح نفوسنا، وارضنا، وارض عنا،
اللهم صل على سيدنا محمد وآله عدد ماسبح لك من حي وجماد، واكفنا يا لطيف شر الضلال والإضلال.
وإلى اللقاء في المقال القادم إن شاء الله.
adilassoom@gmail.com

عادل عسوم

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version