الاحتياج إلى رأس المال دفع نحو نصف دول العالم إلى عرض جنسيتها أو الإقامة الدائمة بها للبيع في مقابل استثمارات تتفاوت بين دفع تبرع إلى شراء عقار وإقامة مشروع.
وعلى رغم أن الفكرة ظهرت عالمياً منذ أربعة عقود فإن السنوات الأخيرة شهدت امتدادها إلى دول عديدة دفعتها الأوضاع الاقتصادية إلى الدخول في تجارة ما يسمى بـ”جواز السفر الذهبي”، وكانت آخر تلك الدول مصر التي أعلنت مطلع مارس (آذار) الجاري تيسير شروط التجنس بالجنسية المصرية في مقابل استثمارات، بينها إيداع 250 ألف دولار في خزانة الدولة وشراء منزل لا يقل سعره عن 300 ألف دولار، بدلاً من 500 ألف دولار التي نص عليها القانون الصادر عام 2019. واعتبر خبراء قرار الحكومة المصرية أنه محاولة لجذب مزيد من العملة الأجنبية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
وكانت الحكومة المصرية أكدت عام 2016 عدم منح الجنسية في مقابل استثمارات، وأن الأمر سيقتصر على إقامة دائمة لمدة خمس سنوات، لكنها دفعت بقانون يسمح بمنح الجنسية في مقابل استثمارات أو ودائع أو شراء عقار، وتم إقرار القانون عام 2019، وعدلت نصوصه أخيراً لتيسير إجراءات منح الجنسية.
إطلاق الفكرة
بالعودة إلى بدايات فكرة منح الجنسية بمقابل مادي، نجد أن كندا ودولة سانت كيتس ونيفيس انتهجتا هذه السياسات في ثمانينيات القرن الماضي، فيما أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا برامج مماثلة في التسعينيات.
وسانت كيتس ونيفيس التي تقع في البحر الكاريبي هي أصغر دولة ذات سيادة في الأميركتين وتتكون من جزيرتين رئيستين، وأطلقت مبادرتها عام 1984، بعد عام واحد من إعلانها الاستقلال عن بريطانيا بهدف تحصيل مزيد من المال وإغراء المستثمرين بالضرائب المنخفضة لكن لم تجذب هذه السياسات سوى مئات عدة آنذاك.
بحلول عام 2009 ازداد الطلب على جوازات هذا البلد إثر حملة تسويقية كبيرة، والتوقيع على اتفاقات تمنح حاملي جواز سفر سانت كيتس ونيفيس حرية الدخول من دون تأشيرة إلى 26 دولة من منطقة تشينغن المنضمة إلى الاتحاد الأوروبي.
وفقاً لموقع حكومة سانت كيتس ونيفيس، هناك ثلاثة خيارات يمكن من خلالها الحصول على جنسية سانت كيتس ونيفيس عن طريق برنامج الاستثمار، أولها التبرع بمبلغ 150 ألف دولار لصندوق النمو المستدام، الذي تم إطلاقه في 2018 لتعزيز النمو في مختلف القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والطاقة البديلة وتغير المناخ والقدرة على الصمود وتعزيز ريادة الأعمال المحلية. والخيار الثاني المساهمة بـ175 ألف دولار في برنامج للاستثمار، أما ثالث الخيارات فهو الاستثمار في مشروع عقاري معتمد بقيمة 200 ألف دولار على الأقل.
ويشكل عائد برنامج الحصول على الجنسية في مقابل الاستثمار نحو 14 في المئة من الناتج المحلي لسانت كيتس ونيفيس، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، بينما ترجح تقديرات أخرى أن العائد وصل إلى 30 في المئة من الدخل الحكومي لعام 2015.
الكاريبي بحر الجنسيات
ودفع نجاح سانت كيتيس ونيفيس إلى أن تحذو دول عدة مجاورة حذوها، فأصبحت منطقة الكاريبي الأبرز عالمياً في ملف بيع الجنسيات، إذ تعرض دولة الدومينيكا جنسيتها بأقل سعر متاح لأية جنسية في العالم وهو 100 ألف دولار، ويمكن من خلال جواز سفر تلك الجمهورية الكاريبية الصغيرة السفر من دون تأشيرة إلى 50 دولة في العالم، إضافة إلى امتيازات بخاصة في المملكة المتحدة كونها من دول الكومنولث.
كذلك يمكن الحصول على جنسية سانت لوسيا، وهي جزيرة في شرق البحر الكاريبي على حدوده مع المحيط الأطلسي، في مقابل 150 ألف دولار، وبالسعر نفسه يمكن الحصول على جواز سفر دولة “غرينادا” الذي يمكن من خلاله دخول أكثر من 150 دولة من دون تأشيرة، ولا يتطلب الحصول على جنسية تلك الدول الإقامة بها أو حتى زيارتها، حيث تقوم شركات متخصصة أغلبها تعمل بالمحاماة بإنهاء الأوراق القانونية اللازمة.
الجنسيات الأغلى
وعلى النقيض يفرض عدد من الدول برامج مكلفة للحصول على الجنسية أو الإقامة المؤهلة في ما بعد للحصول عليها، إذ يتطلب الحصول على جواز السفر النمساوي مد اقتصاد البلاد باستثمار يخلق وظائف بقيمة لا تقل عن 9.5 مليون دولار وفق تقرير لفوربس. وفي نيوزيلندا تتكلف الجنسية 1.5 مليون دولار نيوزيلندي، مما يوزاي أكثر من مليون دولار أميركي.
الولايات المتحدة أطلقت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي برنامجها للحصول على الجنسية في مقابل الاستثمار، الذي ينص على منح الإقامة الدائمة “غرين كارد”، في مقابل استثمار يشغل 10 أميركيين على الأقل. وعدلت واشنطن قيمة الاستثمار العام الماضي ليتوافق مع نسب التضخم ليصل إلى 1.8 مليون دولار. ويمكن للحاصل على الإقامة الدائمة بعد خمس سنوات أن يتقدم وأسرته للحصول على الجنسية الأميركية.
“ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية” يفرمل التوافق الليبي
وأثار البرنامج الجدل في السنوات الأخيرة لمخاوف على الأمن القومي، إذ دهمت قوات مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI عام 2017 مكاتب محاماة مرتبطة ببرنامج الهجرة بالاستثمار EIP-5، على خلفية تقارير بشأن زيادة عدد المتقدمين الصينيين، وتم الكشف عن عمليات تزوير مرتبطة بالبرنامج نفذها مستثمرون صينيون.
وذكر تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية” أن البرنامج تضخم بشكل كبير في العقد الماضي، إذ تم منح 350 تأشيرة فقط بموجب البرنامج عام 2005، وارتفع العدد إلى 9500 عام 2015، وفق أرقام مكتب التحقيقات الفيدرالي، وكان 85 في المئة من عوائد البرنامج من مستثمرين صينيين، بحسب التقرير المنشور عام 2017، الذي شهد تقديم عضوين بالكونغرس مشروع قانون يلغي برنامج تأشيرة المستثمر.
تجربة مالطا
ويبدو أن برامج الاستثمار والجنسية تقترن بمخاوف الفساد، فالاتحاد الأوروبي أطلق في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 إجراءات قانونية ضد مالطا لإجبارها على وضع حد لمنحها ما يعرف بـ”جوازات السفر الذهبية” التي تجذب من خلالها الأثرياء ببرنامج للاستثمار يبدأ من 880 ألف يورو ولا يتطلب الوجود في البلاد، وفي المقابل يصبح صاحب الاستثمار مواطناً أوروبياً، مما جعل البرنامج جاذباً لأصحاب الأموال بخاصة من الصين وروسيا.
وقالت بروكسل إن ممارسات فاليتا يشتبه في أنها تعزز الفساد وتسهل غسل الأموال، كما تنطوي على “مخاطر أمنية خطرة” على المدى البعيد.
لكن على رغم الإجراء الأوروبي لم تتراجع مالطا واكتفت بتعليق تمتع المواطنين الروس والبيلاروسيين المشاركين في الحرب بأوكرانيا بميزات هذا البرنامج، مؤكدة أن البرنامج يدخل في نطاق اختصاصها الوطني، ويبدو أن فاليتا لا تريد التخلي بسهولة عن العائدات التي وصلت إلى 1.1 مليار دولار منذ إطلاق البرنامج عام 2013 وحتى العام الماضي. وكانت آخر الإجراءات الأوروبية في نهاية سبتمبر (أيلول) 2022 بإحالة فاليتا للمحكمة الأوروبية.
وقائع فساد
وفي عام 2020 كشف تحقيق تلفزيوني عن وقائع فساد في برنامج الجوازات الذهبية في قبرص ومالطا، مما دفع نيقوسيا إلى التدقيق في ملفات كل المستفيدين من البرنامج الذي يمنح جنسيتها في مقابل استثمار يصل إلى 2.5 مليون يورو، وعددهم أربعة آلاف شخص، كما أوقفت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 البرنامج الذي أدخل للبلاد عائدات تقدر بسبعة مليارات يورو منذ اعتماده عام 2007. وامتدت تداعيات الفضيحة إلى استقالة رئيس برلمان قبرص ديمتريوس سيلوريس.
واعتبرت المفوضية الأوروبية في بيان حينها أن “آثار برامج تجنيس المستثمرين لا تقتصر على الدول الأعضاء التي تعتمدها”، وأن الحصول على جنسية الاتحاد الأوروبي في مقابل استثمارات “من دون أية صلة حقيقية مع الدول الأعضاء المعنية، يقوض جوهر جنسية الاتحاد الأوروبي”.
كذلك استجابت بلغاريا لانتقادات بروكسل وألغت في فبراير (شباط) 2022 برنامج الجوازات الذهبية، الذي كان يتطلب استثمار مليون ليف بلغاري (أكثر من 581 ألف دولار).
ملاذ للمجرمين؟
وخارج الإطار الأوروبي، كانت دولة فانواتو الواقعة في المحيط الهادئ من أبرز المقاصد للحصول على الجنسية، بفضل حملة دعائية كبيرة أطلقتها الدولة التي تبيع جنسيتها في مقابل 130 ألف دولار وبشروط ميسرة لا تتطلب زيارة البلاد وبإجراءات تنتهي خلال الشهر، وفي المقابل يمكن بجواز سفر فانواتو دخول 130 دولة من دون تأشيرة بما في ذلك بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
وحقق البرنامج لحكومة فانواتو 116 مليون دولار عام 2020، لكنه أثار انتقادات بحصول ألفي شخص على الجنسية في ذلك العام، بينهم رجال أعمال متهمين في قضايا وأحدهم يخضع لعقوبات أميركية.
صحيفة “الغارديان” البريطانية أشارت إلى أن وجود فانواتو كملاذ ضريبي قد ينذر بتحول الجزيرة إلى باب خلفي لدخول العصابات الإجرامية إلى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما يجعلها موقعاً جذاباً لغسل الأموال.
وفق تحقيق الصحيفة البريطانية، أصدرت فانواتو ما يقرب من 2200 جواز سفر في عام 2020 أكثر من نصفها لمواطنين صينيين، وبعد ذلك جاءت الجنسيات النيجيرية والروسية واللبنانية والإيرانية والليبية والسورية والأفغانية. وكشف التحقيق عن أن عدداً من المتقدمين يمتلكون بعض الشركات الوهمية مع عدم وجود نشاط تجاري واضح، وبعضهم غيروا اسمهم القانوني بعد الحصول على جنسية فانواتو، مما يمنحهم هوية جديدة.
لكن سلطات الدولة الواقعة في المحيط الهادئ ردت بأنها موقعة على معاهدات دولية، بالتالي يصعب على الخارجين عن القانون أن يستغلوا فانواتو مركزاً لهم، إلا أن الاتحاد الأوروبي أعرب عن مخاوفه ما أجبر فانواتو على التعهد بتكثيف عمليات التحقق من خلفية المتقدمين.
الشرق الأوسط
وعلى صعيد الشرق الأوسط تبرز برامج منح الجنسية في مقابل الاستثمارات وزادت أهميتها في السنوات الأخيرة، فقبل القرار الحكومي المصري السابق الإشارة إليه، أعلن الأردن العام الماضي تعديل شروط منح الجنسية لتنص على منح المستمر الجنسية الأردنية عند إيداعه وديعة بقيمة مليون دولار لدى البنك المركزي الأردني من دون فائدة، على أن تبقى لمدة ثلاث سنوات، وشراء سندات خزانة بقيمة مليون دولار لمدة ست سنوات، بفائدة يحددها البنك المركزي الأردني، شريطة وجوده داخل المملكة لمدة لا تقل عن شهر قبل توقيع التوصية النهائية بمنحه الجنسية، وكذلك يمكن الحصول على الجنسية بشراء أسهم أو حصص في الشركات الأردنية بمبلغ لا يقل عن مليون ونصف مليون دولار.
وفي الوقت الحالي تبدو تركيا وجهة جذابة للراغبين في الحصول على الجنسيات، بخاصة بعد العقوبات التي تمنع الدول الأوروبية من منح جنسياتها للروس. وبحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية يأتي الطلب الأكبر على الجنسيات من روسيا، وقدرت أعداد الراغبين في الحصول على جنسية ثانية بنحو 15 ألف روسي إضافة إلى عائلاتهم.
وتشمل الشروط التركية لمنح الجنسية شراء عقار بقيمة تتجاوز 250 ألف دولار، ولكن بشرط عدم بيع العقار خلال مدة ثلاث سنوات، أو إيداع مبلغ لا يقل عن 500 ألف دولار في البنك المركزي.
إندبندنت عربية