للجلباب السوداني مزداناً بعمامته وقع انتماءٍ لمَن يتزيَّا به، فهو علامتنا البارزة التي تميزنا من بين سائر الشعوب، وهو بطاقة الهوية التي نبرزها حينما يريد أيّ منا أن يقول (أنا سوداني أنا)؛ رافعاً خصوبةً وجدانيةً هي لونيّتنا المائزة .
هبط مصطفى البطل الشهر الماضي شاهراً تلك المحبة المستحقة لهذا التراب النَضِر الذي يتطلب الجلابية، كي يكون العاشق في قامة التراب. صادف قدومه عودة ضياء الدين من جدّه محملاً بأمتارٍ من أقمشة الجلابيب الفاخرة، كان من بينها قماشاً أوصيته أنا ليشتريه لي من باب شريف، لمعرفة بائعيه اليمانية بالذوق السوداني من كثرة تردد السودانيين عليهم. هذا القماش الذي أوصيته به نَذَرته تعويضاً لقماش اشتريته من الدوحة. أبيض وأملس مستوٍ ومنبسط (محرحر) وفي ملمس الزبدة، تكاد من ليونته أن تحسبه بطنَ أرنبٍ بِكْر، أو كفَّ صبيةٍ بَلَغت سن الاقتراع .
ذهبت بذلك القماش لترزي شهير مسنود بإجماع قومي بأنه من أمهر الترزية في بلادنا، ومن أكثرهم مهارة في تثنّي الجلابية واستقامتها بطولها المنضبط وعمودها المكسور .
ضرب لي موعداً بعد أسبوعين لاستلامها (وبقيت أعدّ وشبعت عَدَّاً) حتى حان يوم قطافها الذي كنت أُناجيه بـ(أتُراه يأزف قبل موتي ذلك اليوم السعيد)، مستدعياً بدر شاكر السياب في قصيدته التي كتبها من الكويت قبالة الخليج وهو ينادي العراق.
ذهبت للترزي في اليوم الموعود وجسدي كان خارج غمده وعيني اليمنى تحدق في عيني اليسرى وقلبي داخل صدري يلقط النبض المجفف، كالحمامة. استقبلني بمحبة وراح يبحث بين أكوام الجلابيب عن جلبابي، وطال بحثه حتى أحسست بالعري. حينها قال لي (تعال بكره) واستمر الموعد لأسبوع حتى صرت (كل يوم أنوم بكره!).
بعد مرور الأسبوع اعتذر لي الرجل. ومثل الحكومات التي تُعلن المجاعة على استحياء، أعلن لي بهمسة أن (الجلابية راحت) وعرض عليَّ التعويض بقماشٍ وَصَفه بالحرير، فقبلت التعويض على مضض وأهديته لجزار يعمل معنا كان يهم بإكمال نصف دينه.
أهداني ضياء القماش وأهدى للبطل قماشين ليكون على مستوى السودان والمرحلة والوفاق الوطني والتحول القادم، ودعوات العشاء التي تتهافت عليه ومعادلة الأمن والحريات، و(تجوعل) ضياء حالفاً بأن (حق الخياطة عليهو) فاتجهنا خلفه للترزي الذي وصفه بأنه واحد الخياطة ومانح الجلابيب نكهتها، ولمّا بَلَغنا دكَّانه صحتُ (دا ما زولي)!
أخبرت البطل -في وجود الترزي وتحت سمع أذنيه- بأنه أضاع قماشي الذي كلَّفني مالاً وفيراً مقارنة بالريال القطري، وشكوت أمامه -بحضور ثلاثتنا- عن المرارة التي استقرَّت بحلقي والحزن الذي أناخ في حشاي والتعويض الذي قَبِلته والجزار الذي طلَّق زوجته بعد شهر من زواجه بالجلباب المعوض. هنا أقرَّ الترزي بكل شيء، ووعد البطل بأن أقمشته ستكون في المراقبة المستديمة حتى يتسلّمها جلابيب تُجسِّد وجه السودان .
خفَّ البطل لاستلام جلاليبه غير أنه استلم واحدة، وراحت الأخرى في حق الله!!!
صحيفة الانتباهة