زهير السراج يكتب: ثروتنا الضائعة!
* على خلفية تصدير كمية من اللحوم المجمدة الى دولة الجزائر قبل أيام قليلة، أعلنت وزارة الثروة الحيوانية عن استعدادها الكامل لتلبية كل احتياجات السوق العربي والافريقي من اللحوم والثروة الحيوانية وهو محض إفتراء وحديث أجوف، فما هى الامكانيات لكى تفعل ذلك، وأين هى الثروة الحيوانية ذات الجودة التي تصلح للتصدير، بينما تنتشر فيها الامراض وتعاني من عدم الجودة الذي يقف حائلا دون منافستها في الاسواق الخارجية، ويكفي البواخر الضخمة التي تعيدها إلينا السعودية من حين لآخر بسبب الامراض المتفشية في حمولتها من الثروة الحيوانية !
* قد لا يصدق البعض ان ثروتنا الحيوانية التي نتباهى بأعدادها الضخمة وتنوعها، ونحلم بأن تحقق لنا مع شقيقتها الزراعة الاستقرار الاقتصادي، لا تجد منا حتى التحصين من الأمراض الوبائية (كما كان يحدث في الماضي)، دعك من المرعى الجيد، والغذاء الجيد، وتحسين النوع، وزيادة الانتاجية، والاتجاه نحو التصنيع وايجاد اسواق خارجية ثابتة، وهى الاسس المطلوبة لتحقيق المنفعة المطلوبة من الثروة الحيوانية أو ما يطلق عليه الخبراء (الاستغلال الاقتصادي للثروة الحيوانية)، والذى بدونه ستظل الثروة الحيوانية مجرد مصدر للمباهاة والأحلام الواهية، وكنز ضائع لا قيمة له، رغم وجوده فوق الارض امام ناظرينا وليس تحتها، ولا يحتاج الى استكشاف أو تنقيب !
* رغم التجارب الانسانية الضخمة، والخبرات السودانية المتراكمة وكمية الدراسات والاوراق العلمية المهولة التي تؤكد ان السودان يمكن ان يصبح دولة لها قيمة من خلال الاهتمام بالثروة الحيوانية والقطاع الرعوى والمزاوجة بينه وبين القطاع الزراعي ..إلخ، إلا ان كل الحكومات السابقة ظلت تتجاهل الثروة الحيوانية وتتعامل مع وزارة الثروة الحيوانية على انها مجرد وزارة ترضيات (لا غير) تضع على رأسها أي شخص والسلام، ثم ينتهى كل شيء .. لا خطط ولا ميزانيات ولا مشروعات حالية أو مستقبلية ولا أي شيء آخر، فتظل الثروة الحيوانية كنزا ضائعا بفضل غبائنا المستحكم ونظرتنا السطحية الى ما حبانا الله به من نعم!!
* عندما استولى حزب (الجبهة القومية الاسلامية ) على السلطة في يونيو 1989 كان أول شيء فعله مصادرة الشاحنات المخصصة لحملات التحصين ضد وباء الطاعون البقري ضمن المشروع الأفريقي المشترك لمكافحة هذا المرض الخطير، لاستغلالها كشاحنات لنقل الجنود رغم انها لم تكن مملوكة لحكومة السودان، وإنما منحة من منظمة الوحدة الافريقية (الاتحاد الأفريقي) للمشروع المشترك الذى كان يضم عدة دول، الأمر الذى تسبب في توقف الحملة وانتشار الوباء مرة أخرى، والقضاء على أعداد ضخمة من الثروة الحيوانية، وإعادة اسم السودان الى القائمة العالمية للدول التي ينتشر فيها المرض، والمساهمة في تصنيف ثروته الحيوانية في مرتبة متأخرة جدا من حيث الجودة والصلاحية، وامتناع الدول عن التعامل معها .. هذا مجرد مثل واحد فقط، ولكن هنالك آلاف الامثلة التي تبين غباء الحكومات المختلفة منذ الاستقلال وحتى اليوم في التعامل مع الثروة الحيوانية !!
* لقد حبانا الله بكمية هائلة من الثروة الحيوانية، بالإضافة الى التنوع، ولكننا ننتظر منها ان تطعمنا وتسقينا وتحقق لنا الاستقرار والثراء، بدون ان نقدم لها اى شئ .. وهو نفس فهم البعض بإطلاق المعيز اول النهار تسرح في (الكوش)، ثم ينتظر منها ان تغرقه باللبن عند أوبتها في المساء !
* الانتفاع بالثروة الحيوانية او (الاستغلال الاقتصادي للثروة الحيوانية) يتلخص في مكافحةالامراض، تحسين المراعي، تحسين النوعية والجودة، التصنيع، وأخيرا التسويق وإيجاد اسواق خارجية ثابتة، وليست مؤقتة، مرة الأردن ومرة مصر ومرة السعودية ومرة الجزائر، ومرة واق الواق!
* بدون توفر هذه العوامل الخمسة والتي تحتاج الى تضافر كل الجهود في شكل خطة قومية يتبناها النظام السياسي بأكمله، وليس الوزارة أو المختصين فقط، علينا ألا ننتظر أي ثمرة من الثروة الحيوانية سوى حديث الاحلام الذى ظللنا نلوكه منذ ميلاد دولتنا وحتى اليوم!
* لقد اسهمت الثروة الحيوانية في بناء الكثير من المجتمعات والدول ونقلهتا من مرحلة الفقر والتخلف الى اعظم المراتب، تحولت هولندا من دولة يهددها الغرق الى كبرى الاقتصادات الاوروبية، وليس لديها عُشر ما لدينا من أبقار. تحولت أستراليا من قارة بعيدة ومعزولة يساق اليها المجرمون الى محط آمال واحلام الجميع بفضل الاهتمام بالضأن. أرجع الى أي فيلم كاوبوى، وستعرف كيف صارت الولايات المتحدة الاميركية اكبر دولة في العالم ولماذا صار (الكاوبوى) أو (راعى البقر) مصدر اعتزاز أي مواطن أمريكي. وهنالك مئات النماذج التي لا يتسع لها المجال. كل ذلك تحقق بالتخطيط والعمل الجاد والعرق، وليس بالأحلام السعيدة والأمنيات الطيبة والترضيات، وبضعة أطنان نصدرها مرة الى هذه الدولة أو تلك!
صحيفة الجريدة