في موسم رمضان ومنذ النشأة، خاصةً أولئك الذين عاشوا في القرى والأحياء الشعبية أو (الحواري) أمثالنا وبعيداً عن تلك المدن وصخبها وأحياء المخططات الحديثة وشققها، أن نعيش طقوساً مميزة وممتعة نستشعر ببساطتنا التغيير الذي يحمله الشهر الكريم رمضان .
بالطبع لن تمر أيام الطفولة دون أن تحمل معها ذكريات الماضي بعبق التاريخ وأمكنته وأيامه وشخوصه ومناسباته ولأن الإنسان بطبعه يحن إلى ماضيه فأن ذاكرة التاريخ عنده تظل في حالة مراجعة بمناسبة أو بدونها .. وهنا نسرتجع الذاكرة إلى الوراء لنعيد بعضاً من ذاك الألق الأخاذ ونفتح هذه الخزينة وهي بلا شك حافلة بالمواقف والذكريات منها الطريف ومنها المحرج على أن المقارنة بين الماضي والحاضر تبدو على النقيض من حيث التطور الذي طرأ على حياة الناس في النمط الغذائي والسكني ووسائل المواصلات وهكذا هي سنة الحياة وربما لا يستوعب جيل اليوم كثيراً من العبارات التي كانت متداولة حتى إلى وقت قريب.
تعالوا لنرى كيف كانت أيامنا مع هذا الشهر المبارك في تلك الأيام (أيام ما كنا صغار) لن أنسى بالطبع التجهيزات التي تسبق الشهر الكريم في إعداد مستلزمات الأكل والشرب منها ما يمكن تجفيفه وروائح الآبري الأحمر والأبيض تغطي كل الأمكنة طبعاً إختفى الآبري الأبيض عن المائدة إلا في حالات قليلة لا زال البعض يتشبث به.
لم يكن في تلك الأيام وجود للكهرباء أصلاً وليست هي الغائب الحاضر كما الآن فقد كان اليقين حاضراً في كل شئ .. كان النيل حضناً بارداً يحوي أجساد الصائمين وكانت الأشجار وتلك التي إلتف حولها اللويس ملاذاً آمناً من لسعات الشمس الحارقة وما بين ( بابور الأنصار والأحيمراب ومنقة عمنا سنوسي الظليلة ولا ننسى بابور الحداحيد كلها أمكنة كانت تغطي مساحات واسعة أيام رمضان.
تتعدد وسائل وطرق حفظ الأطعمة وتبريد المياه وكان لجدنا ود الكباشي عليه من الله الرحمة (سعن) نملؤه نهاراً فتصير المياه بداخله أشبه بمبرد صناعي مع الفارق في المذاق لحظة غرب الشمس بينما تجهز والدتنا (علوية) متعها بالصحة والعافية بمعية حبوبتنا مدينة بت مكاوي رحمها الله في إعداد صينية الفطور وكان يستعصي علينا حملها إذ أنها تنوء بحمل ثقيل يتوسطها صحن كبير تتبادل حوله العصيدة والقراصة وتستدير حول هذه الصينية بين ثلاث إلى أربع (كواري) جمع كورية ذات الحجم العائلي ولم تنس شركات تصنيعها أن تزينها بشعارات الهلال وترصعها بالنجوم وكتبت علي بعضها(رمضان كريم) المهم ليس من السهل أن نحمل هذه الصينية إلى حيث برش الفطور أمام دكان جدنا ود الكباشي حيث يجتمع القوم هناك ولعلي أذكر منهم عمنا بلة يوسف وجدنا أحمد بشير وعمنا الأحمدي فجميعاً عليهم من الله الرحمة والمغفرة وكان من بينهم أستاذنا جاد الله يوسف وبلة الجور متعهما الله بالصحة والعافية
كان نصيبنا ونحن مجموعة الصبية والأطفال من هذه الوجبات صحن نأخذه إلى ركن قصي نأخذ منها نصيبنا إلى حين إشعار آخر أي بمدنا بما إكتفي منه ولعها وسيلة تربوية ناجحة ربما نفتقدها الآن، عقب صلاة المغرب يتحول البرش إلى مجلس للمؤانسة بين الكبار بينما توزع مهامنا فقط لجلب القهوة والشاي ومن ثم إرجاع الصواني من حيث جئنا بها، وما نلبث أن نذهب إلى المعية حيث اللهو البرئ واللعب الذي لا يخلو من العنف بين (شاديت والرمة وحراسها) هكذا يستمر الحال إلى أن ينادي جدنا الأمين ود جاز له الرحمة والمغفرة بالآذان الآن الأول وقت السحر لنذهب بعدها إلى حيث السحور المندكل بالرقاق والأزر باللبن ويالها من أيام.
*هذه الطرفة
من حكاوي تلك الأيام قال الراوي أن ابن عمنا صلاح عبد الحليم وقد إشتهر بسرعة البديهة والرد الحاسم يقول الراوي أن صلاحاً هذا قبل أن يخلد إلى النوم في إحدى أمسيات رمضان وقد وضع أمامه وجبة السحور وأظنها شيء من لبن وبلح ورقاق يقول الراوي نام صاحبنا صلاح نومة عميقة قبل أن يستيقظ على صوت غنامية وقد تناولت وجبة السحور يقول الراوي نظر صلاح إلى الإناء ولم يبق منه شئ قال مخاطبا الغنماية الغدارة ( إن شاء الله تصبحي صايمة).
رمضان الشهر المبارك ذو الروحانية والطمأنينة يدخل علينا ببهجة وفرحة وتهان مختلفة عما نعيشه الآن، وصحيح أن الشهر هو الشهر لم يتغير ولكن نحن الذين تغيرنا نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يحفظ بلادنا ويوحد كلمتنا.
صحيفة الانتباهة