في ظهيرة لاهبة في عز رمضان كانت الشمس تقدم عرضها الحار ضاربة بالأرض عرض الحائط ممسكة بها من تلابيب الرمل والحصى والطين ومشعلة كل شيء فيها. كأنها كانت تقول للأرض أنا من يحدد رأي الناس فيك وأنا من يرسم الرضا عنك. في تلك اللحظة وأنا أغرق في العرق وأتمشى في السوق العربي حيث الجدال البشري الهائل. مسن يعرض (مراكيب) وصبية يبيعون مساويك الأراك ونسوة يجلسن على البنابر يتوسلن للمارة أن يشتروا منهن طاقية. وجوههن تسيل بفيض العرق كأنهن في حفرة دخان والمارة يتهببون بالصحف السياسية. في تلك اللحظة كان المذياع يرسل وصفاً مغايراً للمشهد بـ (رمضان أحلى في السودان)!!
تأكدت في تلك اللحظة أن كلمة (أحلى) تستهدف المعنى البعيد. هي لا تعني ذلك المعنى المتصل بالطقس بقدر ما تعني طقوس العبادة فلكي تكون صائماً نموذجياً يتطلع للرحمة والمغفرة والعتق من النار ويفرح فرحاً مركباً بالعيد عليك بالصوم في السودان .
كل شيء فيك يا بلدي يوحي خلاف ما يبدو عليه. الغبار المفاجئ نذير الرحمة المبتغاة والنسائم العليلة على ندرتها (جو فول) ما الرابط الجدلي بين الأرج والفول؟
أجمل ما في السودان أنه بلد يقوم على التفسير والتفسير المضاد فما يجمع عليه كل سكان الكون في القبح يجد متسعه الجمالي في السودان. بلد يستحق سكانه كل عام جوائز الاجتهاد والقياس لكون دعاياته تنطلق من حلاوة رمضان في السودان والناس تحت ذلك اللظى يجلدون بسياط من شموس.
أعلن تأييدي المطلق لمقاصد تلك الدعاية النبيلة لأسباب عدة أولها القدرة الممنهجة في تحويل المجاز لحقيقة، وثانيها معجزة التحليق العالي بلا أجنحة، والثالث تأكيد الشعرية فأعذب الشعر أكذبه، والرابع الوطنية الموارة. فهذه الدعاية ذات منطلق وطني متجذر يضع الأوطان في الأعلى والطقس (على جنبه) . إنها الدعاية الوحيدة التي تعيد تعريف مفهوم الوطن وتأكيد قومية الأرض وتمنح الأنهار أمجادها وتصب في الناس كل الرحيق.
صحيفة الانتباهة