محمد محمدخير يكتب: في ذكرى شاعرين

لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي!

ذلك هو الديوان الأخير للراحل درويش الصادر عن دار رياض الريس، حين كُنتُ أُطالعه كنتُ أُطالِعُ معه الموت؛ ففي هذه المجموعة الشعرية كان الموت هو الحاضر في كُلِّ القصائد كأنه كان يُحِسُّ بأن الموت سوف يسوقه لعالمه الساكن فيُفقِدُه أهمَّ أدوات شعره وهي الحياة، كي يكتب الشعر، لذا فهو لا يريد لهذا الشعر أن ينتهي.

اقتربَ الموتُ منِّي قليلاً

فقلتُ له: كان ليلي طويلاً

محتوى مدفوع

قاضي محكمة مقتل العميد بريمة يحيل محامية دفاع متهم للجنة قبول المحامين

فلا تحجبِ الشَّمسَ عنِّي

وأهديتُه وردةً

فأدَّى تحيَّتَه العسكرية للغيب

ثم استدارَ وقال :

إذا ما أردتُّك يوماً وجدتُّك

فاذهب !

ذهبتُ ……

كان درويش في (الجدارية) يزهو بأنَّه هزمَ الموتَ ولكن في هذه المجموعة استسلم تماماً له، فقط كان يرجو من الموت أن يتأخَّر قليلاً كي يُتابع قصيدته التي لا تنتهي ويمتلئ درويش يقيناً بأن موته يتأجل حين يزور نزار قباني ويجري بينهما هذا الحوار الحي عن الموت:

قلت: أنتَ في حاجة لهواء دمشق

فقال: سأقفزُ بعدَ قليلٍ لأرقدَ في حُفرةٍ

من سماءِ دمشق

قلت: انتظرْ ريثما أتعافى

لأحملَ عنكَ الكلامَ الأخير

انتظرني ولا تذهبِ الآن

حتى نموتَ معاً

قال: انتظر أنت.. عِشْ أنتَ بعدي

فلا بُدَّ من شاعرٍ ينتظر

فانتظرتُ وأرجأتُ موتي

خلال كتابته لهذه القصيدة الديموميَّة التي يُريد لها التَّسرمد ليجعلها خالدةً كالأبد كان يُحسُّ بالخوف، الشيء الذي جعله يدخل في تكوين الخوف وأعراضه، وكنه الشعور به ووصفته البايولوجية على الجسد وتموجاته وتعريفه ما هو الخوف، وبماذا يشعر الخائف؟

الخوفُ يوجِع: رجفةُ في الركبتين

وخِفَّةٌ في الالتفاتِ إلى الجهات

تشنُّجٌ في البطن والعضلات

جفافُ حلقٍ وانخفاضٌ في الكرامةِ والحرارة

واكتظاظُ السقفِ والجُدرانِ بالأشباح

تُسرِعُ ثمَّ تبطئُ ثم تُسرِع

في نشاطِ الروح كي تبقى عنيدة !!

طبعت الدراما الشعرية الديوان الأخير لدرويش تلك الدراما البسيطة الحية التي طوّرها درويش بالسرد الشعري وأضفى عليها مفارقةً ظلَّتْ تُميِّز نصَّه الشعريَّ، تلك الدراما التي بدأها بسرحان وصعد بها عالياً بأحمد العربي؛ تلك كانت رواياتٌ طويلةٌ في قصيدةٍ قصيرة، رواياتٌ شخوصُها بطلٌ أُسطوريٌّ وشاعرٌ أسطورةٌ، ديوانُه الأخير الذي لن يكتب بعده. حلّق بتلك الدراما المُضيئة وأضاف مفردةً جديدةً في ذلك التناول مفردة الحوار الدرامي داخل النص بكُلِّ اتساع الأفق الفلسفي والبُعد الأزلي الذي يسم الحوار العربيَّ الفلسطينيَّ ويجعله مستحيلاً، لأن القاسم المُشترك في العلاقة هو العداوة. أسقط درويش ذلك المفهوم ضمن قصيدته التي لا يريدها أن تنتهي في شكل قصَّة قصيرة جداً، لكنَّ تموجاتها تسمح بطيفٍ مُمتدٍّ يقبل جميع التفسيرات. يقول السيناريو:

أنا وهو

سنكون شريكين في قتل أفعى

لننجو معاً

أو على حدة

ولكنَّنا لن نقولَ عبارةَ شكرٍ وتهنئةٍ

على ما فعلنا معاً

لأن الغريزةَ

– لا نحن –

كانت تُدافع عن نفسها وحدها

والغريزة ليست لها أيدولوجيا

حين أغلقت غلافي الديوان أحسست بانقباض وبمس كهربائي خفيف وبغصة وآهةٍ فراودتني دمعة على نفسها !!!

(2)

غابة تدفن في الصحراء!

هزم النور كل شيء منذ التفت واهتدى للصراع والتباري كان موفور الذهن ومتقد البدن وصافي القريحة لكنه لم يهزم الموت.

لم يهزم الموت لأن الموت قدر ولو لم يكن غير ذلك لكان النور من الآبدين. الموت مشيئة الله الكبرى وهو (سر لفظ كن وسحر حرف كان)، إنه الحقيقة الكُبرى التي تُعيننا على عبادة الله وتزجر فينا كلاب الشهوات كلما عوت مُسوِّلةً بالرذيلة.

رحل النور عثمان أبكر مُخلِّفاً شعراً وترجماتٍ ودراساتٍ ومحبةَ أجيالٍ وثلاثَ بناتٍ من صلبه يتوقدن علماً ويتضوعن خلاس. إنهن سودانيات من رحم ألماني استصرختهن القدرة في المهد في وادي سيدنا حيث كان النور يدرّس اللغة الإنجليزية لأجيال هي الآن في سدة كل شيء.

سودن النور شريكته مارغريت وجرَّها من المُعتقد الآري للثقافة الشعبية السودانية فمَحَا صَلَفَ هتلر واستنهض حكمة (فرح ود تكتوك)، فغدت مارغريت سودانية بلا شلوخ (مطارق)، وأحسنتْ كل شيء يتَّصل بنا ويدخل ضمن صميم نسيجنا. إن ذلك يعود لقدرة النور (على استلاب الآخرين قدرة الحوار)!

وكنتَ عفَّ النفس

ما اِبتَدَرْتَها

بلفظةِ السؤال عن مدارِها

وعارِها

وجارِها

وما بنا يصيرُ جنة ونار

في تذييل لديوانه (غناء العشب والزهرة) كتب الشاعر محمد المهدي المجذوب عبارةً بالغة الأهمية والإيحاء: (إن شعر النور هو السير في طريق التصوف الظمآن إلى الينابيع المستورة). هي عبارة بالغة الدقة لوصف مهاد فلسفي تغنَّى به النور وأصبح لون شعره ولونية طابعه الفلسفي العميق الذي ميزه بين مجايليه كشاعر ذي مشروع خاص.

رحل النور في فبراير من عام 2009 بالدوحة الصحراء التي تجاور غاباته. أليست الصحراء هي الرمزية الشعرية للثقافة العربية والغابة هي رمزية الزنج التي يعتز بها النور ويرفع راياتها الحضارية.

من قبل بلوغ العالم هذا العصر السامق كان النبض الأول في الغابات!

رغم لسعات الحزن وغمام الأسى والفجيعة الشخصية، إلا أنني قسوت على ابنته وعلى بعض الأصدقاء بالدوحة، إذ لماذا يدفن هناك والنور له وطن وله تلاميذ ومُحبُّون وله اشتعالاتُ أجيالٍ وله ترابٌ أُحبُّه!!

لو كنتُ في الدوحة لحمَلْتُ النور على كتفي ومضيتُ بجثمانه نحو الطائرة بلا تذكرة ولا تأشيرة، فالنور مثل الضوء، والضوء لا يُمنح تأشيرةً لعبور الجبال.. ألم يقر أهل الدوحة شعر النور وعزته ببلده:

من مثل إبراهيم يهدينا حشاشة دهره

رمزاً جميلاً للتضامن

والسلام الوارف

والعسجد الزاهي

وما فَرشَتْهُ أحلامُ الرعيل الأوَّلِ

في أمِّ أرضي

أمِّ بعثي

نشوتي وتجدُّدي

ورفاه عمري المُقبلِ

الغابة دخلت متاهة الصحراء الممتدة تيهاً وسراباً ومفازات. كان الأجدر بجسد النور تراب الوطن فالتراب هو الجدل الأزلي وهو الصراع المؤبد ما بين الشاعر والوطن

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version