أعلن حاكم اقليم دارفور الجنرال مني أركو مناوي، الذي ظهر في زيارته الأخيرة لدارفور وهو يمتنطق بمسدس حول خاصرته رغم احاطته بحراس أشداء (وكأنه يخشى شيئا ما)، أعلن عن امتلاكه لمعلومات تشير إلى عودة المليشيات المسلحة التي ساندت نظام المعزول عمر البشير، إبان سنوات القتال في إقليم دارفور، وهذه المليشيات التي عناها مناوي ليست سوى (الجنجويد) التي كان يتزعمها في البدء الزعيم القبلي موسى هلال حتى بعد أن اطلق عليها مسمى (حرس الحدود)، ليتم بعد ذلك الاطاحة بهلال وتولي حميدتي قيادتها وتغيير مسماها الى (الدعم السريع)، وغير اعلان مناوي عن عودة هذه الملييشيا، فقد تواترت بعض التقارير والمعلومات، التي تشير الى تنظيم حملات تجنيد واسعة في صفوف أفراد ما كان يعرف بـ(حرس الحدود)، هذا بالاضافة الى شهادات وحيثيات وافادات سابقة ابان حادثة منطقة كرينك الكارثية والدامية، تؤكد عودة نشاط هذه المليشيات، كما تشير بعض التقارير باصابع الاتهام الى فلول النظام السابق، تتهمهم بأنهم وراء عودة وتنشيط هذه المليشيات كواحدة من تكتيكاتهم ومخططاتهم الاجرامية، لنشر الفوضى وبث الرعب توطئة لعودتهم مجددا لسدة الحكم، باعتبار أنهم الأقدر من غيرهم على بسط الأمن ونشر الطمأنينة..
كل هذه المؤشرات تفرض طرح السؤال المهم، هل مازال هناك وجود لهؤلاء الجنجويد حتى يعودوا لممارسة همجيتهم وبربريتهم وجرائمهم الفظيعة مرة أخرى، فقد كنت شخصيا أظن أن تلك المليشيات المرعبة من شاكلة جنجويد وتورا بورا وبشمرقة لم يعد لها وجود، وأنها اندثرت وتلاشت وطواها النسيان وحلت محلها تشكيلات أخرى بمسميات جديدة، ولكن هاهو اعلان مناوي وغيره من تقارير وافادات، تؤكد أنها مازالت موجودة، وإن تراوح وجودها وظهورها ما بين مد وجزر ونشاط واستكانة وخلايا حية وخلايا نائمة ولكنها لم تختف تماما..إن مجرد ذكر عبارة (الجنجويد) يعيد للأذهان خبر تلك الجماعة المتفلتة التي قيل في تعريف مسماها أنه اختصار لـ(جن، جاء، راكب جواد وشايل جيم ثري)، وأحيانا يتم اختصارها في عبارة (جنجا) الأقرب لفظا لـ(نينجا)، والنينجا هي تلك العصابات اليابانية الخطيرة التي تتقارب مع الجنجويد في المسمى والأفعال والخطورة والفظاعة والفظاظة، وكان مصطلح الجنجويد قد راج وذاع وانتشر حتى بلغ درجة العالمية ودخل المعاجم الأعجمية واحتل مكانه على خشبات المسارح ودور السينما على مستوى هوليوود، وطاف على الكونغرس والأمانة العامة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي،
ثم من بعد الشهرة السالبة التي وجدتها جماعة (جن راكب جواد وشايل جيم)، أطل علينا زمان جماعة (راكب موتر وشايل كلاش)، وعصابات (تسعة طويلة) التي تستخدم المواتر أيضا، ليحتل هؤلاء الأخيرين مكان السابقين من النهابين، في وراثة عجيبة لتراث العنف والقتل والسطو والنهب والسلب وإشاعة الذعر وبث الفوضى، وتعاقب أجيال الفواجع والمصائب والمحن التي لا تأتي فرادى بل محنة تعقبها فاجعة تليها مصيبة وهكذا دواليك، فدلاليك الحروب والصراعات لم تكف لحظة عن الرزيم إلا بالمقدار الزمني الذي يسمح بنقلها إلى مكان آخر،وستظل هذه الكأس دائرة ما ظلت ثقافة العنف هي السائدة، وثقافة العنف لا تسود إلا حين تضمر الدولة وتتضخم القبلية وتغيب قيمة المواطنة وتصبح المليشيات هي من يأخذ الحق والقانون بيده، وعندما تسود العنصرية، ويتوهم مكون ما أو جماعة ما أنهم الأعلى شأنا من الآخرين، يضطهدونهم ويهمشونهم، ويشردونهم عن اراضيهم وديارهم ويستبيحون مالهم واملاكهم ويسبون ويغتصبون حرائرهم، فحتما ستغيب قيم التعايش والتسامح والتنوع ويستشري البؤس والدمار وسفك الدماء، وهذه للأسف هي نذارات ونذر عودة الجنجويد..
صحيفة الجريدة