الآن العملية السياسية في السودان تدخل مراحلها الأخيرة والأنظار تتلهف لرؤية من يجلس على مقعد رئيس الوزراء الذي يفترض أن يكون قائدًا لما تبقى من المرحلة الانتقالية.
في العُرف الاجتماعي السوداني، إذا تقدم شاب إلى أسرة يطلب الزواج من ابنتها، تبدأ فورًا عملية “صناعة القرار” بتحديد مهلة للرد، أسرة البنت تشرع في جمع المعلومات عن أسرة الطرف المتقدم للزواج، قائمة المسح الاجتماعي تمسح جيران وأصدقاء ومعارف الشاب في العمل وكل من له صلة به، إلى أن تبلغ المعلومات الحد الذي يقنع الأسرة بأنه كاف لـ”صناعة القرار”، فتعرض المعلومات على الجهات العليا صاحبة القرار في الأسرة وبناء عليها إما كان الإيجاب أو الرفض.
هذا العرف على بساطته وعفويته والإقرار به وتقبل نتائجه من الطرفين دون احتجاج، إلا أنه يمثل أنموذجًا حقيقيًا لـ”صناعة القرار” تفتقده الدولة السودانية في أعلى سنام مؤسساتها التنفيذية.
قرارات خطيرة تحدد مصير السودان تتخذ عفو الخاطر ربما من جلسة أنس مع بعض الأصدقاء أو نميمة تنقلها آلية “حمالة الحطب” فتشعل النار والحريق بقرارات مرتجلة، مثلًا حدث في الهجوم العسكري الذي ابتدر الحرب في إقليم النيل الأزرق 2011 وأدى لدمار شامل لم يخرج منه الإقليم حتى، اليوم، رغم توقيع اتفاق السلام في 3 أكتوبر 2020.
في زيارته الشهيرة إلى روسيا، ديسمبر 2018، وعلى الهواء مباشرة تحدث رئيس الجمهورية السابق عمر البشير مخاطبًا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مستجيرا به من الولايات المتحدة الأمريكية وعارضا إنشاء قاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر لحماية السودان من عدوانية أمريكا.
أول من رفع حاجب الدهشة كان وزير خارجيته البروفيسور إبراهيم غندور الذي كان يرافقه ولم يكن له علم مسبق بما قاله الرئيس، ومرت الآن أكثر من 4 سنوات على هذه الحادثة ولا يزال السودان يدفع ثمن تلك الكلمات التي نطق بها رئيسه في لحظة عابرة غير مدروسة ولا مسنودة بأي من مؤسسات صناعة القرار.
مهما كان الشخص الذي تنتهي إليه الترشيحات فهو لن يصنع فارقًا في الحاضر والمستقبل السوداني إلا بقدرته على استدراك الخطأ الجسيم الذي وقع فيه من سبقوه.
في قطاع الكهرباء ظل السودان يعتمد على التوليد الكهرومائي والحراري لعقود طويلة، ثم في لحظة فارقة يصدر قرار بإيقاف التوليد الحراري فيؤدي مع الوقت لتدهور في محطات التوليد الحراري، وعندما تعاني البلاد من عجز خطير في الطاقة الكهربائية وتتذكر الحكومة محطات التوليد الحراري وتحاول العودة إليها لكنها تكتشف جسامة الخسائر الناتجة عن قرار إيقافها والتكلفة الباهظة المطلوبة لاستعادة كفاءتها.
ظلت الدولة السودانية تمتلك أصولًا عقارية ثمينة في أفخم المواقع بمدينة لندن ببريطانيا، بعضها أهديت إلى السودان من الملكة نفسها، وفي لحظة صفاء يهمس شخص في أذن الرئيس السابق عمر البشير ويقترح بيع كل هذه الأصول للاستفادة من عائدها، ودون الحاجة لدورة صناعة القرار يوافق الرئيس السابق بلا آلية رسمية لمتابعة عمليات البيع، فتكون النتيجة أن تباع بأقل من خُمس قيمتها الحقيقية ثم لا يعرف أحد حتى اليوم أين ذهبت حصائل بيع الأصول التي يفترض أن تكون مئات ملايين الجنيهات الأسترلينية.
وبالطريقة ذاتها تُباع الخطوط الجوية السودانية “سودانير” وغيرها من أصول الدولة، لا تجد آلية لصناعة القرار ولو بمستوى العادة الاجتماعية التي تستوفي المعلومات وصناعة القرار قبل اتخاذ قرار بالموافقة على زواج الفتاة.
عشرات المصانع الكبيرة التي أهدرت فيها أموال الشعب السوداني لا تزال شاخصة معطلة بعضها لم يعمل ليوم واحد والبعض ربما عمل لالتقاط الصور يوم الافتتاح ثم انزوى في الظلام، مثل مصنع سكر النيل الأبيض الذي كلف مليار ونصف المليار من الدولارات ولم يعمل إلا لموسم واحد بأقل كثيرًا من طاقته ثم تحول إلى أعظم قصة فشل.
الآن العملية السياسية بالسودان تدخل مراحلها الأخيرة والأنظار تتلهف لرؤية من يجلس على مقعد رئيس الوزراء الذي يفترض أن يكون قائدًا لما تبقى من المرحلة الانتقالية. وظهرت في الأفق ترشيحات كثيرة معظمها تبدو محاولات تلميع لوضع أسماء فوق طاولة الاختيار إذ إن المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير لم ينظر حتى الآن في أية ترشيحات لشغل المنصب التنفيذي الأول في السودان.
ومهما كان الشخص الذي تنتهي إليه الترشيحات فهو لن يصنع فارقًا في الحاضر والمستقبل السوداني إلا بقدرته على استدراك الخطأ الجسيم الذي وقع فيه من سبقوه وينجح بتجنبه.
وأول هذه الأخطاء –بالطبع- غياب المؤسسية والتعويل على القدرة الذاتية في التعامل مع كل الملفات دون حاجة لآليات صناعة ودعم القرار، وهي خصلة ظلت متلازمة الفشل لمن شغلوا المنصب في العهود السابقة، ما أن يتولى أحدهم المنصب التنفيذي الأول حتى يبدأ في جمع كل السلطات تحت يديه، ظنًا منه أن ذلك نوع من الحرص والرغبة في الانجاز، فتكون النتيجة تعطيل مؤسسات الدولة المختصة وانفراد شخص أو ثُلة بالقرار فتتراكم المصائب التي تخرج من عباءة احتكار السلطة.
رئيس الوزراء المقبل – والذي يتوقع أن يعلن اسمه وشيكًا- يجب أن يتحول من مجرد شخص إلى منظومة عمل مؤسسية.
المؤسسية تعني أن دورة اتخاذ القرار لا تسمح لشخص واحد أو جهة واحدة الانفراد بالقرار، فتنشأ أجهزة دعم القرار بالمعلومات والاستشارات التي تضع الخيارات أمام متخذ القرار مسنودة بتحليل دقيق يساهم في تنقية دورة صناعة القرار من الشوائب.
من الحكمة أن يبدأ رئيس الوزراء من أول يوم يدخل مكتبه في إعداد تقويم بالأيام وليس السنوات لما تبقى من الفترة الانتقالية، وعامان تعنيان 24 شهرًا، وتعنيان 730 يومًا، ثم يطلب من مؤسسات التخطيط رسم خريطة طريق بالتواقيت لكل المهام المطلوب إنجازها فيما تبقى من الفترة الانتقالية، ثم توزيع المهام للمؤسسات الحاكمة العليا لتباشر تنزيلها إلى المؤسسات الأدنى ثم متابعة التنفيذ بصورة مستمرة.
مؤسسات الدولة يجدر أن تنقسم في مسارين، المؤسسات المنوط بها التخطيط لا داعي أن تنشغل بالتنفيذ، فالتخطيط بالآمال ولكن التنفيذ محفوف بالآلام، بينما تلتزم المؤسسات التنفيذية بمهامها دون إضاعة الجهد والوقت في التفاصيل التي هي من صميم أعمال مؤسسات التخطيط.
وبين هذا المسار وذاك، تظل مؤسسات جمع المعلومات، بالتحديد الجهاز المركزي للإحصاء والمعلومات هي التي ترصد الأداء وتعيد تغذية مؤسسات التخطيط بالانحراف والفارق بين المخطط له والمنفذ فعلًا.
رئيس الوزراء المقبل – والذي يتوقع أن يعلن اسمه وشيكًا- يجب أن يتحول من مجرد شخص إلى منظومة عمل مؤسسية، حتى لا يستعيد السودان ذكريات الفشل المرير خلال 67 سنة منذ الاستغلال.
إرم نيوز