محمد محمد خير يكتب: ملاحظات وتأملات

لاحظت أن أفضل الأماكن للمختلين عقلياً هي محطات الوقود، فقد لاحظت أنهم ينتخبون هذا المكان للتجول حوله بهمة عالية، وربما يكون هنالك أكثر من مجنون في نفس الساعة في محطات وقود مختلفة في أرجاء متعددة من نواحي الخرطوم. كنت أظن أن هذه الظاهرة حصرية على السودان وعلى نزوعات الجن السوداني وميوله وتفضيلاته للأماكن المستطابة لهذه الشريحة المهمة التي أعياها الواقع ففقدت الإحساس به ولجأت للتعبير عن نفسها بالغياب الكلي عنه.

حاولت منذ فترة أن أجد همزة وصل تجمع بين الجنون ومحطات الوقود أو (الصواني)، فهناك أيضاً بعض المختلين الذين يستعذبون الصواني وليست لهم أية ميول للطلمبات.

لم أجد تلك الهمزة الواعية التي تصل الجن بمحطة البنزين ولا الغياب بصواني المرور.

اكتشفت لاحقاً أن الظاهرة ليست حكراً على السودان، وأن للمختلين عقلياً مزاجاً واحداً وخيارات شبيهة في كل أرجاء الكون، فقد زرت في العام الماضي ابنتي بولاية (نورث كرولاينا) الأمريكية، وفي محطة الوقود فوجئت بمجنون أمريكي في كامل حلته الامبريالية يتجول في محطة الوقود باسمال مرفأة تبرز عورته بوضوح، وكان يتفوَّه ببعض العبارات البذيئة ولم تكن هنالك أية ردود أفعال تجاه ما كان يلفظه، بما يؤكد عادية الأمر وإلفة مرتادي المحطة على هذا المشهد.

كان المجنون الأمريكي شديد الشبه بالمجنون السوداني الذي اعتدت رؤيته كلما شهق (تنك) عربتي فذهبت بها لمحطة الوقود (نفس الملامح والشبه)، والفرق بينهما أن الأمريكي فاحش ومجنون بلدي وقور!!

محتوى مدفوع

(الإنتباهة) تفتح ملف أحداث عنبر جودة.. ناجون من الموت يروون تفاصيل مثي…

وأنا أسير بالعربة مع بنتي وزوجها عبرنا (صينية مرور) بوسط المدينة حيث انتضى مجنون عنيف يصرخ بصوت عالٍ ويهمهم بعبارات من أقاصي جوفه يستعصى فهمها على كل لبيب يفهم بالإشارة. في تلك اللحظة تيقنت أن الجنون قد تعولم واختار أماكنه ومنصاته ومفرداته واستقر!

ولاحظت أن هنالك نسبة مئوية ثابتة يدلي بها الناطقون الرسميون باسم أية مفاوضات تجرى بين متنازعين، وهي نسبة 80%، فأنا أذكر تماماً أن كل الناطقين باسم الحكومة والحركات ظلوا يتمسكون بهذه النسبة قبل أن تبدأ المفاوضات الرسمية، حتى بدا لي أن هذه النسبة اكتسبت قدسية وثباتاً وأصبحت الدليل القاطع على نجاح المفاوضات، وكل ما عداها لا يؤشر لشيء سوى الفشل، فإذا أدلى ناطق بتصريح رفع فيه سقف هذه النسبة لـ 95%، فهذا ما يعني أنها دخلت غمدها المسدود ولن تخرج منه إلا إذا تقلصت لـ 80%. وكنت أيضاً أعتقد فيما مضى أن ذلك يقع ضمن الخصوصية السياسية السودانية التي تميز لونيتنا المائزة بين الشعوب.

عاودتني ذات الأسئلة القديمة المتعلقة برابطة محطات الوقود والصواني والـ80% التي كنت أعدها ملكاً خاصاً بنا، لكنني اكتشفت مستقراتها الإقليمية وعمقها الدولي سواء على صعيد الجنون أو التفاوض.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version