ما زالت أجيال من ستينيات القرن الماضي كحال معظم السودانيين، يتذكرون بأسى وحزن وأسف كيف كانت شوارع الخرطوم تغسل بالصابون مع بزوغ كل فجر، بخاصة الشوارع الرئيسة مثل شارع القصر، كما تقوم صهاريج البلديات، في الصيف، برش شوارع الأحياء الشعبية بالمياه لتثبيت التراب وتبريد الأجواء في شهر رمضان، أما في زمننا المعاصر، باتت الخرطوم في قائمة المدن الخمس الأسوأ التي يمكن العيش فيها، بحسب تصنيف أصدرته إحدى كبريات شركات استشارات الموارد البشرية، نشر على موقع “بيزنس إنسايدر”، يضم نحو 33 مدينة صنفت على أنها الأسوأ في العالم من حيث جودة الحياة.
انتفاضة ضد القمامة
وتبدلت الحال اليوم ودفنت بؤر النفايات المنتشرة في كل أنحاء العاصمة رونق الخرطوم وجمالها وإشراقها، كما ظهر عديد من الأمراض، المرتبطة بانتشار النفايات، كالملاريا وحمى الضنك.
في الأثناء، أعلنت حكومة الولاية حملة شاملة هدفها تنظيف العاصمة وإزالة النفايات. ودعت القطاعات الشعبية والرسيمة من المؤسسات الاتحادية والولائية للتجاوب مع المبادرة التي أطلقتها، بتخصيص يوم الأربعاء من كل أسبوع، يوماً للنظافة وإزالة أكوام النفايات المتراكمة وتحسين بيئة العاصمة. ويعول والي الخرطوم المكلف أحمد عثمان حمزة على الشراكات مع عدد من المؤسسات بالقطاعين العام والخاص للمساهمة في تحسين واجهات الطرق، مناشداً الهيئات الحكومية والخاصة كافة الانضمام إلى يوم النظافة.
مشاركات قيادية
ودخلت الحملة أسبوعها الثاني، وشارك في يوم النظافة وجمع النفايات المخصص للمنطقة المحيطة بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، الفريق الركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ووزير مجلس الوزراء المكلف عثمان حسين، ووالي الخرطوم المكلف أحمد عثمان حمزة الذين أكدوا دعمهم خطة حكومة الولاية حتى تصل إلى نهايتها وتحقيق النجاح والغرض المنشود منها بإزالة النفايات التي باتت أمراً مألوفاً في العاصمة الخرطوم.
وشملت حملات النظافة مناطق حيوية في وسط الخرطوم، وأيضاً شوارع كبيرة ومهمة تشكل واجهة للعاصمة السودانية، فضلاً عن عدد من الطرق الرئيسة والفرعية.
لكن هذه ليست المرة الأولى التي تستنفر فيها ولاية الخرطوم من أجل النظافة، فقبل نحو خمس سنوات خاضت الولاية تجربة مماثلة عبر هيئة نظافة الولاية فشلت في جعل العاصمة نظيفة.
أسباب التفاقم
ورأى متخصصون في التنمية والتخطيط الحضري للمدن أن أساس تفاقم مشكلة نظافة العاصمة الخرطوم يكمن في غياب المنهج المتكامل في الإحاطة بالمشكلة والتعامل الاستراتيجي معها، إذ كانت كل حكومات الولاية المتعاقبة تلجأ إلى الحلول الإسعافية الموقتة بدلاً عن التخطيط لحلول طويلة الأمد ومستدامة بالبحث عن جذور هذه المشكلة.
ورأى محمد عثمان بشير أستاذ الهندسة المدنية أن الامتدادات الجغرافية والسكانية العشوائية الشاسعة في العاصمة كانت سبباً رئيساً في فشل كل الاجتهادات السابقة لجعل الخرطوم عاصمة نظيفة، وانتقد بشير غياب الخطط والتمويل والتخطيط الحكومي الفعال لمشروع نظافة الشوارع والمدن في السودان، وتعتمد هذه المشاريع على حركة أسطول الشاحنات والعمال بشكل محدود إلى جانب التعاقد مع بعض الشركات الصغيرة.
وحذر أستاذ الهندسة من أنه، في حال استمرار هذا الوضع، قد لا تجد الخرطوم مناصاً من أن تقوم بجراحات معمارية هيكلية قاسية بإزالة كثير من المباني وفق تخطيط جديد يقوم على محو أجزاء كبيرة منها حتى تواكب طبيعة المدن الحديثة، أو التفكير في عاصمة سودانية بديلة بتخطيط جديد، في مكان آخر، على رغم تميز موقعها الجغرافي الحالي من حيث مقومات الجمال الطبيعية المتمثلة في روعة اقتران النيلين الأبيض والأزرق، حيث يندر أن يوجد ذلك في أي من مدينة في العالم.
ونادى بشير بضرورة الاستفادة من تجارب عدد من الدول التي سبقت السودان في هذا المجال ونجحت خلال فترة وجيزة في حل مثل هذه المشكلة من خلال تفعيل نشاط مؤسسات الحكم القاعدية في الوحدات الإدارية والمحليات والبلديات وإسنادها في القيام بدورها في النظافة، بحيث يمكن من خلال التعاون المشترك الحصول على الخبرة والمساعدات ودورات التدريب المطلوبة للعاملين في هذا القطاع الحيوي الهام في المحليات والوحدات الإدارية المعنية بتقديم هذه الخدمة.
رؤية وجهود جديدة
ويبدو أن ولاية الخرطوم تربط مشروع النظافة، هذه المرة، برؤية شاملة لتطوير الولاية، وعقدت في نهاية فبراير (شباط) الماضي، لجنة تنفيذية متخصصة لتطوير الخرطوم اجتماعاً قدمت فيه أوراق علمية عدة في إطار التحضير لمؤتمر شامل تجرى الترتيبات لعقده قريباً لتطوير الولاية، يهدف بصورة أساسية إلى وضع حلول لكل المشكلات التي تؤرق كاهل الحكومة والمواطن معاً.
وفي إطار الجهود لاستكمال حلقات نظافة الخرطوم، افتتح والي الولاية المكلف، السبت الثالث من مارس (آذار)، أضخم محطة لتجميع وضغط النفايات بمنطقة الأندلس، بمحلية جبل أولياء، وتدشين مشروع البيئة الخضراء بزراعة الأشجار بكامل محيط المحطة. وأوضح الوالي أن المحطة تأتي ضمن منظومة النظافة لزيادة عمليات جمع النفايات وإخلاء الأحياء والشوارع والأسواق منها، منوهاً بإدخال ماكينات لطحن مخلفات الأشجار، للمرة الأولى، لإعادة استخدامها في صناعة الخشب المضغوط. ولفت إلى أن من أكبر التحديات التي تواجه الولاية الزيادة الكبيرة في عدد السكان وما يترتب عليها من زيادة في كمية النفايات، وناشد المواطنين سداد ما عليهم من رسوم التخلص من النفايات حتى تستمر الولاية بالقيام بمهامها في هذا الخصوص.
حتى النفايات أصبحت كنزا
بدوره، قال بشرى حامد الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية بالولاية إن افتتاح المحطة الجديدة سيقلل من استهلاك الوقود وزيادة كميات النفايات المنقولة المتوقع أن تتمكن المحلية عبرها من نقل نحو 900 طن من النفايات يومياً، معلناً اعتماد المجلس هيئة نظافة ولاية الخرطوم كمركز متخصص في التدريب وفقاً لمعايير التخلص من النفايات.
وكشف مدير هيئة نظافة بالخرطوم عن أن المحطة الجديدة هي واحدة من خطة تشمل إنشاء خمس محطات أخرى ليرتفع العدد الإجمالي إلى ثماني محطات، مبشراً بدخول محطة نفايات منطقة سوبا، جنوب الخرطوم التي تستفيد منها محليات شرق النيل، والخرطوم، وجبل أولياء قريباً. وتتوقع هيئة النظافة وصول نحو 40 جراراً للنقل كدعم من المنظمة اليابانية للتعاون الدولي “جايكا” في شهر أبريل (نيسان) المقبل.
التمدد وغياب التنسيق
من جانبه، انتقد الاختصاصي بتخطيط المدن المهندس صلاح عثمان، بشدة، انعدام التنسيق بين جهات الاختصاص الرسمية المسؤولة عن التخطيط الحضري التي تعمل كجزر معزولة عن بعضها البعض، مضيفاً أن التمدد السكني العشوائي شكل ضغطاً مهولاً على الخدمات المحدودة بالخرطوم، وبات من المشكلات التي لا بد من الإسراع لمعالجتها، وانتقد المتخصص في تخطيط المدن، ما وصفه بالفشل الإداري والأخلاقي المتكامل الذي يتجلى في الوضعية المزرية للمناطق الصناعية وسوء تنظيم الأسواق السودانية التي كان يمكن تفاديها وتصحيحها عبر تشكيل مجموعات تتحقق لها مصالحها من دون أن تتضارب مع مقتضيات التنظيم والإصلاح المطلوبة.
وفي سياق حملة نظافة الخرطوم، أعلنت وزارة التخطيط العمراني بالولاية اعتماد موجهات حكومية تقوم على منهجية العمل الميداني لحل القضايا العالقة وفق توجيهات من والي الخرطوم المكلف، بالعمل الميداني لحل القضايا التي تتعلق بالأراضي والتخطيط السكني، بخاصة في المناطق العشوائية بالحارات الطرفية.
وأمنت زيارة ميدانية لفريق وزارة التخطيط على عدد من المعالجات في إطار مكافحة السكن العشوائي، والنظر في معالجة أوضاع مواطني زرائب المرخيات، ومنح سكان السيح حقوقهم في الأراضي التي ظلوا يسكنون فيها فترات زمنية طويلة.
في الأثناء، تواصل هيئة الطرق والجسور ومصارف المياه حملاتها للنظافة وصيانة الطرق بمحليات الولاية وأحيائها المختلفة.
وتقدر مساحة ولاية الخرطوم بنحو 22 ألف كيلومتر مربع، وشهدت في السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في الكثافة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يقدر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى أصبحت تكاد تضم ربع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة)، على محليات ولاية الخرطوم السبع، ووصل معظمهم إليها من الولايات الأخرى سعياً وراء الخدمات والرزق.
جمال عبد القادر البدوي
صحيفة البيان