ظاهرة مثيرة للدهشة، إستقر التيار الكهرباء عدة شهور ماضية، لم أقرأ أو أسمع “كلمة خير” واحدة في حق “ناس الكهرباء”.. قبل يومين بدأت موجة برمجة للقطوعات الكهربائية.. فعادت اللعنات والدعوات على “ناس الكهرباء”.. في تقديري هذا سلوك مجحف للغاية..
“ناس الكهرباء” لا يجلبونها من خيالهم أو أمانيهم الجميلة تجاه مواطنيهم، هي معادلة وحسابات واضحة لا تحتمل الجدل أو التلاوم.. تقوم على موازنة الإنتاج في مقابل الطلب..
الطلب يزيد بصورة طردية مع زيادة العمران والإنسان والنشاط الاقتصادي وغيره.. بينما الإنتاج (الضل الوقف ما زاد) لعدة سنوات.. فليس هناك استثمار في مصادر توليد ولا شبكات النقل والتوزيع ولا الصيانة ولا التدريب.. وبالضرورة سينشأ من هذا الوضع عجز كبير في الطاقة الكهربائية يجبر “ناس الكهرباء” على توزيعها بمبدأ ” الفقرا إتقاسموا النبقة”.. وكلما زاد العجز صغر حجم “النبقة” فزادت ساعات الإظلام وما يتبعها من ضجر وضرر.. ولن يجدي الغضب، فاللعنات لا تنتج كهرباء .. و “ناس الكهرباء” هم أنفسهم في بيوتهم يعانون مثل الآخرين من ألم القطوعات..
والأمر ليس دورة قصيرة مؤقتة.. فالشعب السوداني الذي غنى في سبعينيات القرن الماضي :
الكهرباء جات
أملوا الباغات..
قبال تقطع..
هسي بتقطع..
لم ينعم براحة من ألم القطع من خلاف إلا سنوات قليلة في عهد المهندس مكاوي محمد عوض وبعده بقليل من قوة الدفع التي خلفها وراءه.. أكثر من 50 سنة والسودان يكابد هذه المحنة الممتدة عبر الأجيال.. ألم يحن أن ننظر للأمر من مقام عملي علمي..
كتبت هنا كثيراً.. اقترحت لتطوير قطاع الكهرباء وتعظيم العائد منه لـ”ناس الكهرباء” والشعب السوداني معاً أن نفك أسره ونسمح له بالانطلاق، وصدقوني سيأتي يوم تصبح الكهرباء على رأس صادرات السودان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة..المباشرة تعني تصدير التيار الكهربائي نفسه، وغير المباشرة تعني صادرات الصناعة والزراعة التي سيرتفع العائد منها إذا توفرت الكهرباء وانخفضت تكلفتها.
اقترحت أن نعيد هيكلة القطاع، وذلك بتأسيس “المجلس الأعلى للطاقة” ومهمته تنظيم القطاع بوضع خطة استراتيجية بعيدة المدى وتحفيز استثمار القطاع الخاص في محاور التوليد و النقل والتوزيع.
مثل هذا الجسم التنظيمي يفتح آفاقاً بلا حدود للاستثمار في الطاقات المتجددة خاصة الطاقة الشمسية، التي يمكن أن يصبح كل بيت سوداني خلية لإنتاجها.
في تقديري لو أعيدت هيكلة القطاع فبالإمكان تصميم خطة استراتيجية للقفز بالإنتاج إلى أكثر من 40 قيقا وات في 7 سنوات حتى العام 2030، مع تخفيض التكلفة لتصبح للصادارت السودانية ميزة إضافية.
لكن أهم ما يحققه “المجلس الأعلى للطاقة” فصل القطاع من أقدار السياسة، فبكل أسف هذا القطاع ضحية اللعبة السياسية المزمنة منذ الاستقلال، ودفع الشعب السوداني ثمناً باهظاً للأجندة السياسية التي لا تدير محركاً للإنتاج بينما تنفخ الرياح ضد أشرعة النمو والنهضة..
لا وقت للدموع أو انتظار مقادير الساسة أن تنعم على الشعب قمحاً ووعداً وتمنى… الأفضل أن نبدأ منذ الآن في إعادة هيكلة قطاع الكهرباء.
صحيفة التيار