إن شاء الله بعد أيام قليلة تهل علينا ليلة النصف من شعبان، وقد قُدِّر لي بأن ألتقي بالشيخ الألباني رحمه الله، وقد جالسته مرات عديدة، والرجل- والله حسيبه- خير من اشتغل بعلم مصطلح الحديث من بعد الشيخ البخاري -أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري- رحمه الله، فسألته عن صحة هذا الحديث:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليطّلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلاّ لمشرك أو مشاحن).
رواه ابن ماجة، وابن أبي عاصم، واللالكائي.
قال لي الشيخ الألباني رحمه الله:
– لقد جهدت كثيرا في شأن هذا الحديث واستقصائه، وأقول بأنه صحيح.
وبعد سنوات صليت مع الشيخ المغامسي -صالح بن ناصر المغامسي- عندما كان إماما لمسجد قباء في المدينة المنورة، وسألته عن ليلة النصف من شعبان، فقال لي أطال الله عمره: ان العمدة فيها ذات الحديث أعلاه، وأفادني بأنه يرى صحة الحديث بناء على تصحيح الشيخ الألباني له.
وهذا الحديث الشريف الذي يتحدث عن ليلة النصف من شعبان؛ كان دافعا لي لأن أتقصى ماورد عند فقهائنا الأربعة فوجدت الآتي:
1- عند المالكية:
جاء في التاج والإكليل (وهو من كتب المالكية الثقات):
“رغّب في قيام تلك الليلة” (يعني منتصف شعبان).
2- عند الحنابلة فقد أورد الإمام أحمد رحمه الله الحديث أعلاه في مسنده، ولكن برواية عبدالله بن عمرو.
3- وقال الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الأم: “أنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي (منها ليلة النصف من شعبان)”. وما حكاه هو القيام والدعاء والذكر.
4- وقال ابن نجيم من الحنفية: (ومن المندوبات إحياء ليالي العشر من رمضان، وليلتي العيدين، وليالي عشر ذي الحجة، وليلة النصف من شعبان، كما وردت به الأحاديث)
المصدر: “البحر الرائق”.
وهذا مذهب الحنابلة كما في “شرح منتهى الإرادات” للبهوتي، 5- وقال ابن تيمية رحمه الله: (وأما ليلة النصف فقد روى في فضلها أحاديث وآثار، ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها، فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا) “مجموع الفتاوى”.
وبذلك فقد ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة المتبوعة إلى استحباب إحياء ليلة النصف من شعبان، لحديث (يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لإثنين: مشاحن، وقاتل نفس) كما رواه الإمام أحمد في “المسند” من حديث عبدالله بن عمرو بسند صحيح بشواهده كما قال المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة، ورواه أيضا الطبراني في “المعجم” بسند صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا، ولكنه قال: (إلا لمشرك أو مشاحن) قال الهيثمي: رجاله ثقات.
ودلالة الحديث ظاهرة على أن لهذه الليلة مزية فضل ورحمة ومغفرة، فمن تعرض لهذا الفضل بالصلاة والذكر والدعاء رُجي أن ينال من تلك النفحات المباركة، كما أن قيام الليل عبادة مستحبة في كل الليالي، ومنها هذه الليلة.
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: “لهذه الليلة -يعني النصف من شعبان- فضل، يقع فيها مغفرة مخصوصة واستجابة مخصوصة” “الفتاوى الفقهية الكبرى”.
تنبيه مهم:
للفائدة أرى ايراد فتيا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
يرى الشيخ ابن باز رحمه الله بأن الاحتفاء بليلة النصف من شعبان بدعة، ويقول في ذلك:
[ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها.
أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم].
انتهى قول ابن باز رحمه الله.
الذي أراه والله أعلم:
لابأس من الاحتفاء بهذه الليلة المباركة من باب الحرص على عدم تفويت بركتها طالما صح الحديث الشريف الوارد في شأنها، واستصحابا لمايشبه الاجماع من غالب فقهاء أهل السنة حولها، ولكن ينبغي التنبيه إلى حكمين مهمين نص عليهما كثير من العلماء:
أولا: استحباب إحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة (يكون فرادى وليس جماعة)، لا في المسجد ولا في غير المسجد، وإنما بالقيام الفردي فقط. وقد نص غالب الفقهاء على كراهة إحيائها (جماعة).
ثانيا: لا يجوز تخصيص هيئة خاصة للصلاة ليلة النصف من شعبان، ومن ذلك ما اشتهر عند بعض الصوفية باسم (صلاة الألفية)، حيث يصلون (مائة ركعة)، يقرأون في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص عشر مرات، هذه الصلاة بهذه الكيفية لم يرد فيها نص أو حتى أثر، ولا يجوز نسبتها إلى الدين، وكذلك لم يرد في الاسلام مايسميه البعض ب(صلاة الرغائب)، قال النووي رحمه الله:
“الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما فصنف ورقات في استحبابهما؛ فإنه غالط في ذلك” المجموع شرح المهذب. والله أعلم
يمكن للمسلم أن يصلي (وحده) ما تيسر له، ويحرص على كثرة الدعاء وسؤال الله الحاجات.
والله أعلم
صحيفة الانتباهة