الزراعة من أهم المهن وأعظمها شأنا، ولكن لو قلت عن شخص ما في بلد عربي إنه مزارع فإنك تعني أنه غلبان وفلسان ورقيق الحال، فالزراعة في أوطاننا مهنة لا تحظى بأي اهتمام، رغم أن معظم العرب العاربة والمستنسخة إما زراع وإما رعاة، وحتى الأقلية التي احترفت الصيد في البحار والأنهار تندرج تحت مسمى الرعاة، وبداهة فإن أصحاب المزارع ذات المساحات الشاسعة لا يعتبرون مزارعين بل يسمون «مُلاك أراضٍ/ مستثمرين»، بينما من يدق تراب تلك الأراضي ليجعلها تنتج هو المزارع، وحتى في بلداننا التي تقول دروس الجغرافيا إنها زراعية فإن من يريد ان يشيد مصنعا لرقائق البطاطس المغشوشة، يجد من الإعفاءات والتسهيلات ما لا يحلم به مزارع حِرفته إنتاج الطعام أو السلع النقدية، ولهذا في بلد مثل السودان، حصة الفرد فيه من الأراضي الخصبة نحو 25 فدانا (الفدان يتألف من 4200 متر مربع)، تجد في الأسواق منتجات زراعية من فرنسا ونيوزيلندا بل بلغ بنا البطر أننا استوردنا النبق (الكنار باللهجة الخليجية) من إيران والبيض من الهند، وقبل أربعين سنة لم يكن 99% من السودانيين يشترون حتى البيض المحلي من السوق المحلي لأن كل بيت كان يربي بضع دجاجات وديكا عالي اللياقة والكفاءة ويحقق الاكتفاء الذاتي في مجال البيض.
ومصر بها أمهر مزارعي القارة الإفريقية والشرق الأوسط، ويستطيع الفلاح المصري أن ينتج في رُبع فدان، الفول والقمح والطماطم والخيار بجودة عالية ليعول بها أسرة تتألف من ستة أفراد، ورغم ضيق المساحة الصالحة للزراعة في مصر فإن الفلاح المصري يسهم في الاقتصاد الوطني أكثر مما يسهم القطاع الصناعي، ولكن الحكومات المصرية المتعاقبة ظلت تنحاز إلى المستثمرين في قطاع الصناعة، وتترك الفلاح تحت رحمتهم يبيعون له الأسمدة والمبيدات بأسعار فلكية فيذهب معظم عائدات الزراعة إلى مستثمرين طفيليين، ويؤلف طفيليو المدن النكات عن الفلاحين الصعايدة، مع أن أي مصري من أصول غير صعيدية أو نوبية «مضروب»، وهأنذا أرفع إصبعين محذرا من يستخفون بالفلاح، بأن مزارعي منطقتنا قد يجدون أنفسهم واقفين على الجانب الخطأ من القانون، كما فعل رصفاؤهم في كولمبيا والمكسيك وأفغانستان، أي بالتحول إلى زراعة المخدرات (حجم تجارة المخدرات في السوق العالمي اليوم 350 مليار دولار، وهو ما يفوق قيمة جميع الحاصلات الزراعية في جميع دول العالم)، ولماذا نذهب بعيدا واليمن الذي كان وعلى مدى قرون ينتج أفضل أنواع البن، انصرف المزارعون فيه عن البن وزرعوا القات لأن عائده سريع ومضمون، ويتم تصدير بعضه يوميا إلى بريطانيا وغيرها من الدول الغربية (حيث لا يعتبر القات نباتا مخدرا، لأنه بالفعل ليس كذلك، إذ لا تأثير سلبيا له على العقل).
والأفغان الذين ظلوا «يجاهدون» لإقامة حكم إسلامي في بلادهم، يعمل معظمهم في الزراعة في بلد لا توجد فيه سهول منبسطة أو أنهار جارية، وجربوا مختلف أنواع المحاصيل، ثم اكتشفوا أن أرضا مساحتها عشرين مترا مربعا تأتي بعائد مالي من الأفيون أكثر مما يتأتى به 20 ألفا من الأرض المزروعة قمحا، فدخلوا في مهنة زراعة وتسويق «الحرام» أفواجا، وتحول الأفغان الطيبون البسطاء إلى شعب يعتبر الأفيون من ضروريات الحياة، ليس فقط كسلعة نقدية، بل حتى للاستعمال الشخصي، وليس مستبعدا أن من يجاهدون اليوم لإقامة شرع الله سيأتي عليهم قريبا يوم لا يميزون فيه بين شرع الله وشرعة جورج بوش الذي أمطرهم قنابل قضت على الآلاف من الآدميين وكانت سمادا للهيروين.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]