قلنا في الحلقة السابقة ، أن الجذر الأساس لما بين القوات المسلحة و الدعم السريع ، كان منبته التحفظات التي ساقها قادة الجيش بشأن تأسيس هذه القوات ، ثم الظروف السياسية والامنية التي داهمت البلاد آنذاك ، ولم يكن إلحاق القوات المساندة الجديدة بجهاز الأمن والمخابرات آنئذٍ إلا تلبية لرغبة الجيش ، لم يرد الرئيس البشير و هو صاحب الفكرة أن تكون تلك التحفظات عائقاً أمام توجه وجد له ما يبرره ، ولم يرد شغل البلاد و الجيش بتحفظات يمكن معالجة مخاوفها وتخفيف اثارها ، و أغلق البشير الباب سريعاً منعاً لجدل لا طائل من ورائه .
و ذكرنا كيف سارت الأمور ، إلى وقوع عملية الإنقلاب على الرئيس البشير و مشاركة الدعم السريع في ما جرى ، و تلاحظ أنه منذ اليوم الأول للانقلاب في 11 ابريل 2019 بروز خلاف حاد أعلن فيه قائد الدعم السريع في بيان له رفضه المشاركة في المجلس العسكري الذي أراد تكوينه الفريق اول عوض بن عوف ، قائد الانقلاب على البشير ، و هو نفس الشخص الذي أتى بقائد الدعم السريع عام 2013م لتكوين قوات الدعم السريع وعرّفه علي الرئيس البشير ..!
وكان سبب رفض محمد حمدان دقلو لمجلس عوض بن عوف أن تراتبية تكوين المجلس العسكري المزمع تشكيله لم تعطه الموقع المناسب له كما كان مراده ، و قد راج يومها و شاع ، أن الفريق أول صلاح قوش مدير جهاز الامن والمخابرات قد ساند حميدتي في موقفه ، و البعض يقول أنه حرضه على رفض مجلس عوض بن عوف ، كما أشيع ايضاً أن إجتماعاً عُقد في مكتب قائد الدعم السريع حضره صلاح قوش والعميد (م) محمد ابراهيم – ود ابراهيم ، بحث عن خطة بديلة و تنفيذ إنقلاب آخر مضاد ، لكن تسارع الأحداث و تنحي الفريق أول عوض بن عوف ، أنهي ذلك الخلاف و تحقق لقائد الدعم السريع ما أراد ، فصار نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أول عبد الفتاح الرهان .
علي خلفية الحساسية السابقة بين الجيش والدعم السريع ، لم ترض قيادات عليا في الجيش وجود قيادة الدعم السريع في مقر القيادة خاصة الحلول في مكتب وزير الدفاع وبعض مكاتب قيادات الجيش بعد شغور المواقع و المكاتب ، وكانت الهمهمات تدور والتلميحات تتري في هذا الأمر الذي يعد من شأن يخص القوات المسلحة و نظامها المعمول به ، بل كانت بعض الرتب العسكرية تظن أن الرتب التي أُعطيت لقيادة الدعم السريع غير حقيقية تشابه رتب القوات الجنوبية الصديقة التي كانت تقاتل في صفوف الجيش ايام حرب جنوب السودان ، كالتي أعطيت فاولينو ماتيب و عديد من قادة الفصائل الجنوبية التي كانت موالية للحكومة .
انفتحت على أوسع نطاق الشهية الجامحة لممارسة السلطة من قبل المجلس العسكري ، و شعر الدعم السريع بأنه بات يملأ الفراغ الذي خلفه تحجيم جهاز الأمن والمخابرات و تراجع دور الشرطة ، فلعب أدواراً في التأمين والاعتقالات والزج بقيادات النظام السابق في السجون وإقتياد الرئيس البشير إلى السجن بتهمة الإحتفاظ بأموال في منزله ، فضلاً عن مباشرة التعيينات و الإنخراط إدارة مؤسسات الدولة وفق الصلاحيات التي تمتع بها المجلس العسكري الإنتقالي .
حدثت تقاطعات و اختلافات في التقدير والتقدير السياسي ، تتعلق بالعلاقات الخارجية و الشأن الداخلي ، وحرية التحرك التي تمتع بها الدعم السريع ، ظل الجيش ينظر اليها و يتشاور ضباطه مع قيادته حولها ، لكن قيادة الجيش والمجلس العسكري كانت تغض الطرف وغير راغبة في إحداث توترات لم يحن آوان إثارتها ، لكن غض الطرف ذاك لم يلفح في لجم الخلافات و التدخلات والإملاءات الخارجية ، و كان مؤدي كل ذلك إعفاء عدد من أعضاء المجلس بضغط خارجي ( الفريق عمر زين العابدين ، الفريق جلال الشيخ و الفريق شرطة بابكر الطيب ) ثم لاحقاً ( الفريق مصطفي محمد و الفريق أول طيار صلاح عبد الخالق ) .
كان لدي قيادة الدعم السريع هاجس كبير بسبب وقوعها تحت تأثير الإعتصام و الشارع والقوي السياسية اليسارية و حزب الامة وحلفاء الخارج ، هو التخلص من عناصر في الجيش والأمن و الشرطة و أجهزة الدولة ، علي مظنة أنهم إسلاميين ، بجانب قوائم قادمة من الخارج ، و لم تكن قيادة المجلس العسكري على خلاف مع قيادة الدعم السريع في التخلص من هذه العناصر ، فتم تجريف هذه المؤسسات من كوادر علي مستويات قيادية مهمة و من عناصر مفتاحية في العمل العسكري و الأمني والشرطي و الخدمة المدنية . ولم يجد هذا التوجه في تصفية ضباط الجيش والشرطة والأمن غير الغضب وزيادة الحنق والرفض داخل هذه المؤسسات مع شعور جارف بالخذلان من قيادة الجيش التي تواطأت مع عملية التجريف و إتخذت القرارات المجحفة .
بجانب ذلك كثُرت المرويات والأقاويل حول تعرض عدد من الضباط بالجيش للمساءلة و التوبيخ من قبل قيادة الدعم السريع ، وكان لذلك صداه داخل القوات المسلحة ، ووردت أخبار عن بعض المشاحنات والاحتكاكات البسيطة بسبب تلك الحالات ، مع ملاحظة أن الرأي العام داخل الجيش لم يتقبل تواجد سيارات الدعم السريع المسلحة داخل القيادة العامة و حراسة أسوارها و أمام مواقع عسكرية أخري .
تباعدت الخطي فى المواقف السياسية بين الطرفين ، فبينما كان رئيس الوزراء الأثيوبي يزور السودان ويحاول طرح مبادرته ينويو 2019م، و يجتهد الإتحاد الأفريقي في مبادرة أخرى ، و تجري نقاشات وحوارات بين القوى السياسية وقيادة المجلس العسكري حدثت تباينات بُنيت على تقديرات ظرفية ، لكن تم تجاوزها لإعتبارات داخلية وخارجية ، و إلتأم الطرفان معاً في موقف واحد قبيل و بعد فض الاعتصام من أمام القيادة العامة يوم 3 يونيو 2019 م ، ثم سارا معا نحو المبادرتين الافريقية والاثيوبية ومبادرات أخرى ، وتسابقوا نحو تفاهم مشترك مع الدكتور عبد الله حمدوك ليكون رئيساً للوزراء في حال التوقيع علي الوثيقة الدستورية ، و للتاريخ فإن مجيء و إختيار حمدوك و التفاهم معه كان عملاً خالصاً قام به المجلس العسكري ( أول لقاء مباشر تممطلع مايو بين الفريق أول كباشي و حمدوك في اديس ابابا ) و تم تمرير و إخراج اختيار رئيس الوزراء عن طريق بعض القوى المدنية و تجمع المهنيين .
قبيل توقيع الوثيقة الدستورية و نتيجة للتباينات السياسية و ما يدور داخل الجيش ، حدث إنقلاب الفريق أول هاشم عبد المطلب رئيس هيئة الأركان ، ولم يكن من تدبير الاسلاميين بل كان ردة فعل مباشرة على ما يدور داخل الجيش من أراء ومواقف ، حول تعاطي قيادة المجلس العسكري مع الوضع في البلاد و العلاقة الحساسة مع الدعم السريع ، وزاد الطين بلة داخل الجيش تسريب ما يشبه التحقيق لقائد الدعم السريع مع الفريق أول هاشم عبد المطلب المتهم بالانقلاب ( حسب الترتيب العسكري الفريق اول هاشم أقدم من البرهان في السلك العسكري ) ، و هذا التحقيق من طرف خارج المؤسسة العريقة أوجد ردود أفعال مكتومة داخل الجيش .
في غضون كل ذلك ، كانت الاحداث تتلاحق ، فما يسميه قيادات و ضباط الجيش بالتمدد الأفقي والرأسي الدعم السريع وبناء علاقات خارجية خاصة به ، و علاقات مباشرة مع مجموعات عسكرية دولية وشركات استثمارية ممارسته لأعمال تعدينية مع استقلالية كاملة في الحركة وانشاء معتقلات خاصة وأذرع داخل مؤسسات الدولة مثل الأجهزة العدلية ، بالإضافة إلى النشاط السياسي العام وتوظيف وضعية الدعم السريع في العمل السياسي ، كان هو محل متابعة و نظر دقيقين من قبل الجيش وأطراف أخري ربما تمثل ( الملأ السياسي – Establishment ) بالداخل وخاصة الجهات المرتبطة بأطراف خارجية .
نواصل الحلقات ..
الصادق الرزيقي