عادل الباز

عادل الباز يكتب: حكايتي مع حمدنا الله (8-8)

1

كنت السائق المأمور وما أسعدني بأوامره، إذ إنني أعرف إنه حين يعتمر عمامته ويناديني للخروج أدرك أنني على موعد مع لقاء نادر مع شخصية أو زيارة مهمة أو صيد ثمين، ما عدا مرة واحدة كدت أن أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، سآتيك بخبرها بعد حين. لماذا بعد حين …الآن. كان ذلك في مكتبة البشير الريح بأم درمان، وكانت المحاضرة عن أغاني الحقيبة، ولما كان البروف حمدنا الله قد جاهر قبلها بآرائه الناقدة لأغنية الحقيبة، بدأت تتسع دوائر أعدائه من مدمني الحقيبة، وبدأوا يتربصون بالبروف، ما ان بدأت المحاضرة، حتى نهضت جمهرة من فناني الحقيبة ومحبيها يقودهم الفنان بادي قاصدين المنصة للإعتداء على البروف حمدنا الله، بعد دقائق عينك ما تشوف إلا النور، جاطت الدنيا وأطفئت الأنوار وفرتقت الندوة، ومرقتنا وقتها عربتنا المتهالكة التي كنا نسميها رزاز، لأنها تمشي على كيفها. ومنذ يومها حرمت مباراة حمدنا الله في ندواته عن الحقيبة أو أم درمان مصنوعة، مالي أنا، بل وماله هو أيضاً. يقول الكتيابي الله يطراهو بالخير

(مالي أنا أزين الأفق للعميان الشاكين من رمد البصيرة والغباء

وما أقول الشعر في زمن العلامات الكبيرة والثراء.).

2

توجهنا ذات صباح صوب نمرة (2) وتوقفنا أمام منزل قديم متهالك.. بداخله أثر معمار كان جميلاً كما يبدو. شرفة تطل على حديقة أصبحت الآن خرابة وصالون المنزل بالداخل ذو هندسة جميلة ولكنه خاوٍ إلا من مكتبة قديمة مغبرة يعتليها العنكبوت.. أخذتني الدهشة حينما علمت أنني داخل منزل محمد أحمد المحجوب شخصياً (محمد أحمد المحجوب، شاعر ومؤلف ومهندس ومحامي وقاضي وسياسي. قاد حزب الأمة ورأس مجلس وزراء السودان. ولد عام 1908 وتوفي عام 1976.). كنت أسمع من خالي الريح الشيخ الريح الإتحادي الصميم رحمة الله عليه قصص كثيرة عن المحجوب وفصاحته وبلاغته رغم أنه كان خصماً له لكونه حزب أمة. كنت ولازلت ما افتخر بأنني ابن مدينة خرجت اثنين من رؤساء وزراء السودان.

أطل علينا بعد قليل ونحن نبحلق فى أرجاء الصالون أو في ذاك الجمال المعماري المتهدم ، ابنه سيد، سيد محمد أحمد المحجوب والذي غادر أيضاً الحياة بعد سنوات قليلة من لقائنا معه. تحدث سيد عن ذكرياته مع أبيه وحكى له حمدنا الله طرفاً من قصص لم يسمع بها الابن ودارت نقاشات وذكريات طويلة. في نهاية الجلسة ونحن نهم بالخروج عثرنا على كتاب قديم وممزق لإدوارد عطية وهو كتاب (عربي يحكي قصته) لإدوارد عطية (لبناني مسيحي ولد عام 1903م في لبنان، وعمل في خدمة حكومة السودان من عام 1925 إلى عام 1945م، وتوفي عام 1964، وكان والده طبيباً في السودان، عمل في حلفا أولاً ثم انتقل للعمل في الخرطوم، ويقول المؤلف إن علاقة أسرته مع البريطانيين قوية) ويقول إداورد عطية عن نفسه (وقد استمرت حياتي العملية في السودان حتى العام 1945، حيث انحصرت مهمتي لعشرين عاماً في ترجمة أفكار ومشاعر المثقف السوداني آنذاك لصالح حكومة السودان.). ولكن الحقيقة إنه كان قلم المخابرات البريطانية الأول في السودان.

المهم أستاذنا سيد محمد أحمد محجوب، في استلاف الكتاب وترجمته ونشره على صفحات جريدة الصحافة التي كنت اترأس تحريرها آنذاك (2007) وقد كان، إذ تولى الترجمة الأستاذ سيف الدين عبد الحميد، ونشر بالصحافة ولاحقاً نشره الأستاذ سيف كتاب (عربى يحكي قصته). كما طالب دكتور حمدنا بذلك كثيراً في كتاباته. وبالمناسبة عثرت على رواية لإدوارد عطية “الطليعة السوداء” وهي جديرة بالتوقف عندها.. سأفعل قريباً

3

يبدو لى أن هذه الحلقات قد طالت وصعب تتبعها بدليل ملاحقتى من كثيرين عقب كل حلقة يطالبوننى بإرسال الحلقات مجتمعة، ولذا سأتوقف هنا، وأترك باقي الحكايات – وهي كثيرة وتستحق أن تروى – لأيام قادمة إذا مدّ الله فى الآجال.

(وَالمَوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ

وَالمُستَغِرُّ بِما لَدَيهِ الأَحمَقُ

وَالمَرءُ يَأمُلُ وَالحَياةُ شَهِيَّةٌ

وَالشَيبُ أَوقَرُ وَالشَبيبَةُ أَنزَقُ

ختام

كان الختام محادثة أخيرة لي مع حمدنا الله، نهراً من الضحك فاضت فيها دموعي، ولم يلبث إلا قليلاً وغادر، ففاضت دموعي مرة أخرى، أتذكر آخر حديثي معه فأضحك وتفيض دموعي، وانتبه إنه غادر فأبكي فتختلط دموع بدموع، لا أدري أي دمع أقصد، ظللت على تلك الحالة أياماً حتى فاجأني صديقي وتلميذ حمدنا الله، الوفي صالح محمد (زين) بآخر مقالب حمدنا الله، إذ قال لي صالح أن المرحوم أوصى باسترداد مليارات الجنيهات تركها طرفى!!. فضكحت لأول مره بعد وفاته، وقلت هذا آخر مقالبه، ومن أين لحمدنا الله بالمليارات، وهو من المعلمين…دخل الدنيا نظيف اليدين نظيف القلب.. خالي من سقط الدنيا ومتاعها… وخرج منها كما دخل… أما وقد ألبسني آخر مقالبه وجعلني مطارداً من ورثته، خاصة من ابنه محمد الذي زوجته بيدي هاتين بابنة السناهير الدكتورة توسل أحمد الريح.. (ده آخر الجزاء يا محمد.. اتهامات). سمح .. ياحمدنا الله.. أكيد أكيد حنتقابل. أسأل الله أن يجعل لقاءنا على ضفاف حوض المصطفى في جنة عرضها السموات والأرض.

وإلى ذلك الحين لك مني سلام ومحبة ممتدة، واشواقى ودعائي لك لن ينفيهما الموت أيها الحبيب.

صحيفة اليوم التالي