وقع مني أركو مناوي اتفاقية أبوجا للسلام مع الإنقاذ في العام ٢٠٠٦م. جاء بموجبها مساعداً لرئيس الجمهورية، ورئيساً للسلطة الانتقالية لإقليم دارفور.. لكن مناوي ما لبث أن غادر القصر الجمهوري، مغاضباً.. لم تف الإنقاذ بالتزاماتها – كما جرت العادة – فشعر بملل، بعض حنق، وربما “ديكورية” المنصبين، أكثر هي التي أوغرت صدره، رجع إلى “الغابة” مناضلاً دخل في تحالفات، قاد مبادرات، تورط في هشاشة الوضع الليبي، دخل وخرج جنوب السودان، تشاد، دون إحداث مكاسب عسكرية على الأرض. ربما أوغر صدور الهبانية، في بعض تحركاته في جنوب دارفور، داخلاً أو خارجاً من جنوب السودان..
مناوي – بعد ديسمبر التي أطاحت بحكم الإنقاذ ٢٠١٩م – وجد، إلى جانب الحركات الأخرى وضعاً جديداً، هو وضع “حركات الكفاح المسلح”، الحركات وجدت محاولات من “قحت” لابتلاعها. لكنها – بذكاء ومكر – أفلحت في أن تجعل “اتفاق جوبا” الذي وقعته مع الحكومة الانتقالية هو المرجعية. يسود هو، في حال تضاربت مادة من مواد “الوثيقة الدستورية” معه.. بموجب هذا الوضع، جاء مني أركو مناوي حاكماً لإقليم دارفور، وهي “لقمة أكبر من أن يبتلعها”.. لماذا؟
ما الذي يفعله مناوي بالقضمة الكبيرة هذه؟
ترزح دارفور، منذ بعض الوقت، تحت ضغوط وضعيات خاصة. يمكن القول – إجمالاً – أنها تحت هيمنة القبائل العربية. فقد جرى العمل على عدة محاور، بلا تخطيط مسبق، أفضى إلى فرض هذه الهيمنة، واقعاً، لا يمكن تخطيه. ساعدت – بلا شك – تمددات الدعم السريع على ذلك.. وبما أن المجموعات العربية في دارفور لا يجمعها مشروع سياسي مشترك، فقد برز الدعم السريع مثل قوة “طارئة”، يمكنها أن توحدهم، ولو بشكل مؤقت.. وحدة مرحلية، يعني،
في الطرح السياسي للحركات المسلحة الدارفورية ليس ثمة من مشروع أو مقولات جوهرية. لا تدعي الحركات – بلا استثناء – أنها تملك إجابات متماسكة، بناء حسن التشييد بحيث يكون مشروعاً. فقد قامت كحركات مطلبية تنشد (العدل والمساواة)، أو في أحسن الأحوال تريد أن ترفع الظلم التاريخي، وتنجز تنمية متوازنة، على فرضية أن هناك (مركزاً مهيمناً) يستأثر بالسلطة والثروة.
لكن المفاوضات والاتفاقات الموقعة مع الإنقاذ والانتقالية في (أبوجا، الدوحة، وجوبا أخيراً)، تنظر تحت أرنبة أنف هذه الحركات.. مجرد صراع آخر من أجل الكراسي والمكاسب، يستبدل هيمنة النخب القديمة (المركزية)، بهيمنة نخب (هامشية) تسعى لأن تتمركز، بأي ثمن.
وكما فعل سلفه، وخلفه، في ذات الوقت، د. التجاني السيسي، حين تولي (السلطة الانتقالية لدافور)، سيضيع مناوي فرص كبرى يمكنها أن تعيد ترتيب الإقليم، وتدفع بعجلة التنمية فيه، بحيث يمكن أن يكون أنموذجاً تسعى بقية الأقاليم إلى تقليده.
مثلاً:
يمكن لمناوي أن يتبنى مشروعات قرى نموذجية، برعايات وتمويل خارجي، أو الدخول في شراكات ذكية يتمكن عبرها المواطن المسكين من التخلص من – وإلى الأبد – من عناء النزوح والمعسكرات، والهجمات المستمرة من مجهولين، يتم تسميتهم بـ(الطرف الثالث)، بعد كل حادثة. يمكن إنشاء مجمعات سكنية يتعذر اختراق أطواقها الأمنية، وهو المشروع الذي فشل في إنفاذه التجاني السيسي بدعم ورعاية قطرية، وصناديق مانحين.
يمكن لحاكم إقليم دارفور أن ينظر في إحياء المشاريع الزراعية القومية (مشروع جبل مرة الزراعي، مشروع ساق النعام، وغيرها)، بحيث تتحسن إنتاجياتها وعوائدها، كما يمكنه أن يستفيد من علاقات مميزة ببنك التنمية الأفريقي، أو الصناديق المتاحة في استئناف ربط أجزاء الإقليم بشبكة طرق معبدة (الطرق الموجودة في دارفور هي إنجاز مايو والإنقاذ)، ومستفيداً من وجود وزير المالية التي جاءت به اتفاقية جوبا، الحاصل على دكتوراة في الاقتصاد من اليابان.
يمكن لمناوي حاكم إقليم دارفور أن يفعل ما عجز عنه الفريق أول محمد حمدان دقلو، وقيادات الدعم السريع.. ذلك أن الصرف على القوات التي تفرض (السلام)، لو صرف نصفه في المشاريع الحقيقية، لما احتاجت دارفور إلى قوات “تحميها” من هجمات المتفلتين.
سيضيع حاكم الإقليم فرصة ذهبية، بالجري وراء سراب السياسة. من (إطاري، لمبادرات، لحوارات تقييم، لاصطفاف لتبرير انقلاب البرهان، لمشاورات مصرية، وغيرها)..
في الأخير:
سيتم إفساح مجالس جديدة في (نادي النخبة السياسية)، القديم، لنخب جديدة، سرعان ما تنطفئ نجومها، لأنها عجزت عن ” تقدير الموقف”، وهو المصير الذي ينتظر “الهيمنة” الراهنة للمجموعات العربية في دارفور، إذا لم تتفتق عبقريتها عن “سياسي وطني، ومحلي.
ولا أظن أن الأوان قد فات على “تطليق” قضايا أحزاب المركز، و”قلة شغلتها”.
صحيفة اليوم التالي