“نحن نُواجه اليوم أخطر تبعات إنقاذ رقابنا بالقوة وتحرير اقتصادنا بالضربة القاضية”.. الكاتبة..!
بدأتُ صباحي بمكالمة هاتفية من رقم مجهول قالت صاحبته – ذات الصوت الذي يشبه الطنين – إن اسمي ورقمي مسجلان في هاتفها المحمول بلقب “منى الحنانة”.. مسحت جفنيَّ لإزالة بقايا النوم وأخبرتها بصوتٍ ناعس بأنني لست كذلك.. لكنها – فيما بدا لي – كانت مشغولة بإيجاد حل لمعضلة أقَضَّت مضجعها وحرضتها على مهاتفة الناس في صباح الرحمن..!
ثم، ودون أن تفكر في الاعتذار عن إزعاجي أمطرتني بسيل من الأسئلة عن مواعيد العمل في “مراكز تجميل” منطقة المعمورة وما جاورها، وكنت قد تذكّرت في تلك اللحظة المفصلية من الصباح مركزاً للتجميل يقع في شارع المشتل يفتح أبوابه باكراً، فنصحتها به، لكنها رفضت اقتراحي بجفاء، وهي تخبرني – في ضجر – بأن شارع المشتل بعيد. انتهت المحادثة ولسان حالي “وأنا مالي”.. ثم بقيت في ذاكرتي نبرات الدلع في حديثها وطريقتها – غير السوية – في مط الكلمات، وتقطيع الأفعال، وشَنق حروف العِلَّة..!
مع فنجان قهوتي، تذكّرت “صنفاً مشابهاً، كنت قد التقيت به في محل شهير لبيع كرات “الآيسكريم”.. كُنت قد لمحت طفلاً يرمق تلال “الآيسكريم” في نفاد صبر، فخاطبت أمه الشابة قائلةً إن بإمكان الطفل أن يأخذ دوري حتى لا يمل الانتظار.. انشغلت بمنح الطفل اللطيف أوسع ابتساماتي قبل أن انتبه لصوت الأم – الذي يشبه نغمات التنبيه في أجهزة الموبايل – وهي تطلب كرتين لطفلها، قبل أن تمعن في تقطيع الأفعال وشنق حروف العلَّة وهي تطلب المزيد والمزيد من كرات “الآيسكريم”، ثم تحمل أكياسها وتغادر وهي ترمقني بنظرةٍ جانبية وكأنها تعاقبني على فعلةٍ خرقاء قوامها اللطف والذوق..!
مع كوب الشاي الذي أعقب فنجان القهوة، تذكّرت – أيضاً – تلك الأم الشابة حديثة العهد بالأمومة، والتي كانت أمها الستينية جارة لي.. وكيف أن قدومي للتهنئة كان قد تزامن من خروج باقة من النساء المتأنقات.. وما أن استويت جالسةً على الكرسي حتى تعالت شهقات “الأم الصغيرة”.. التفت نحو “الأم الكبيرة” مستفسرةً فضحكت وهي تخبرني بأن “ونسة” أولئك النسوة عن أوجاع الولادة وآلام المخاض قد أعادت إلى ذهن ابنتها تلك اللحظات العصيبة، فانهارت بالبكاء وهي تطلب من أمها أن يتم حذف أي “ونسة” بهذا الخصوص من كل جلسات التهنئة مُستقبلاً..!
ومن عجبٍ أن هذه “الأصناف” من أمهات اليوم هنَّ الامتداد المتنامي لجيل الأمهات الرائع الذي بات مهدداً بالانقراض بعد أن زحفت عليه عوامل التعرية العصرية، وبعد أن ساهم ذات الجيل الأكبر في إفساده بإصرار الأمهات على تدليل بناتهن – كتعويض ربما عن الدلال الذي لم يحظين به في طفولتهن – والنتيجة هي انحسار معدلات النساء اللاتي يفهمن في الأصول ويحرصن على إحياء التقاليد والعادات الحميدة..!
يحزنني جداً أن تلك الكائنات الرائعة المليئة بالإخلاص والكبرياء والإنسانية قد باتت اليوم مهددة بالانقراض.. ذلك الجيل من النساء اللاتي يعرفن تماماً ما يجب أن يقال وما ينبغي أن يفعل في كل موقف، مفاجئاً كان أم روتينياً، كرنفالياً كان أم مأساوياً.. جيل السيدات الرحيمات الودودات المكتنزات اللاتي يجدن “نضافة الكمونية و”تسبيك الدمعة” و”تظبيط الكوارع”، بذات القدر الذي يجدن به اختيار “الطلح” الجيد و”الشاف” الجيد، والمشاركة في صنع ولائم الأفراح والأتراح، وتوجيه “صرفة الصندوق النبيلة” على النحو الهادف البنَّاء الذي يقيل عثرات الأزواج ويصلح عجز الميزانية..!
يحزنني جداً أن يحل محلهن جيل الأمهات العصريات النحيفات كفزاعات الطيور، الأنانيات كبخلاء الجاحظ، السطحيات كأغلفة الهدايا، المُستاءات من كل شيءٍ، والراغبات في الحصول على كل شيءٍ دونما أي كفاح، بل دونما جهد يُذكر..!
جيل الأمهات الجديدات اللاتي لا يجدن الحديث أو الخبيز أو الطهي، ولا توفير الأموال ولا “تمييز الحال”، واللاتي لا يقمن وزناً لفنون التواصل، ولا يفهمن في الأصول، ولا يجبرن الخواطر..!
صحيفة الصيحة