كثيرا أننا نستخدم العديد من الشماعات لنعلق عليها قصورنا وقعودنا وتبقى التنمية الاقتصادية متوقفة بسبب تآمر إسرائيل علينا، ونتغيب عن عمل ضروري لأن الطقس حار أو بارد جدا (حكى سوداني ابتعث مع نفر من بني وطنه إلى لندن للدراسة في ستينيات القرن الماضي أن السفارة جاءت تبحث عنهم في مكان إقامتهم لأنهم لم يذهبوا إلى الكلية التي تم تسجيلهم بها لعدة أيام منذ وصولهم المدينة، فتعللوا بأنه كلما تأهبوا للخروج فوجئوا بهطول الأمطار، فقال لهم مندوب السفارة: لو انتظرتم توقف الأمطار فسترتدون للأمية).
ذات مرة انتبهت إلى أن زميلاً لي في العمل يهمهم ويبرطم، وتبدو عليه علامات الهلع كلما دخل علينا رجل مسن، يشغل وظيفة عمالية بسيطة، فاستجمعت جلافتي وسألته عن سر الرعب الذي يسري في أوصاله كلما دخل علينا ذلك العامل، فقال: عينه حارة، هنا استجمعت وقاحتي وسألته: وهل قست درجة حرارة عينه؟ وطالما أنك تقول إن عينه حارة، (بصيغة المفرد)، وهو مزود بعينين، فأيهما هي الحارة: العين اليمنى أم اليسرى؟
طبعاً كنت أقصد أن أسأله: هل لديك دليل على أن عين الرجل حارة ومؤذية؟ فقال لي إن الكثيرين في مكان العمل يعرفون الأمر، ويتحصنون بالمعوذتين كلما دخل عليهم مقدماً الشاي أو جالباً الأوراق والملفات، ودخلنا في جدل طويل، وكانت وجهة نظري هي أن الرجل قد يكون مظلوماً، وأن شخصاً ما ألحق به التهمة، كما حدث مع آخرين أبرياء، وياما سمعت نساء قريباتي أو صديقات للعائلة عزون إصابة أطفالهن بالحمى أو كسور إلى أن فلانة أو علانة قالت عنهم إنهم أي العيال “حلوين”! أو أن الولد صار بليدا في الدراسة بعد أن قالت إحداهن إنه “ذكي”. (تحضرني هنا طرفة امرأة كانت تحمل طفلا في حافلة عامة، ولاحظ رجل يجلس بالقرب منها، أنها تبكي فسألها عن سبب بكائها، فأبلغته أنها عندما شرعت في ركوب الحافلة، قال راكب عنها إنها تحمل قردا، فقال لها الرجل العطوف: أعطيني القرد الذي تحملينه هذا وروحي اشتميه شتيمة الأراذل).
المهم أنني كنت أعرف أن ذلك العامل يحب الثرثرة، وأنه مجامل إلى درجة البكش، وأنه يمدح أشياء الآخرين، وصادف أن قال إن فلاناً اشترى سيارة تشبه السيف، وكانت سيارة رياضية شكلها أقرب إلى شكل الضفدع، وبعد يومين أو ثلاثة سمعنا أن صاحب السيارة في المستشفى بعد حادث انقلبت فيه سيارته خمس مرات في شارع رئيسي، وقليلون من قالوا إن المصاب جنى على نفسه لأنه كان معروفاً بقيادة السيارة بالطريقة الثعبانية بسرعات عالية، ولكن كثيرين ربطوا بين الحادث وما قاله عنها ذلك العامل، وذات يوم “سايست” الأخير، وبعد لف ودوران أصاب شفتي بالجفاف نصحته أن يكف عن التعليق وإبداء الملاحظات حول الآخرين وملابسهم وممتلكاتهم، كي لا “يتهموك بأنك صاحب عين حارة”، فكانت المفاجأة أن الرجل أكد لي أن عينه حارة بالفعل، ونصحني أن “أعمل حسابي!!”، هنا استنتجت أن الرجل ربما روج لحكاية عينه الحارة لشيء في نفسه، فهناك أناس يعانون مما يسمى بالإنجليزية “أتينشن ديفيست”، وترجمتها غير الدقيقة هي “قصور في الاهتمام”، ومعناها الدقيق هو أن المصاب يفعل أشياء كثيرة، وربما يؤذي نفسه للفت انتباه الآخرين، بل معروف أن أمهات مصابات بذلك المرض يؤذين عيالهن، ويبلغون المستشفيات عن إصابتهم بأمراض من نسج خيالهن ليصبحن هنّ موضع انتباه الآخرين.
المهم أنني عرفت لاحقاً أنه يبتز بعض زملاء العمل بأن يدخل على الواحد منهم ويطلب منه مالا أو خدمة معينة وهو “يُقلب” عينيه، فينال ما يريد لأن الكثيرين كانوا يحرصون على شراء رضاه! وتحضرني هنا حكاية أم صبحي الأردنية التي نقلتها بعض الصحف، وأدهشني أنها سردت كيف أنها استخدمت “عينها” لتقطيع ملابس الآخرين، وكيف أن سيدة استأجرت عينها لإيذاء زوجة أخيها، فقامت بالمهمة خير قيام، فسقط جنين زوجة أخ تلك السيدة، وقالت أم صبحي إن زوجها يخاف منها ولا يرفض لها طلباً، خاصة بعد أن غادرت البيت ذات يوم بعد أن تشاجر معها فأصيب بعلة طارئة ألزمته المستشفى. ويبدو أنها بلطجية تتسلح بمنطق: أعطوني ما أريد أكف عنكم عينيّ!
صحيفة الشرق