دائرة التطبيع مع دولة اسرائيل، أو البحث عن علاقات تربط الخرطوم وتل أبيب.. هذه الدائرة بدأت صغيرة، وسرعان ما شرعت في الاتساع.. وهي دائرة لم تبتدئ بلقاء عنتبي بين البرهان ونتنياهو في فبراير من العام ٢٠٢٠.. خطوط الدائرة بدأت في الالتصاق لتحديد شكل مقروء من أوقات مبكرة، عندما أعلن بعض المنتسبين للنظام السابق جهراً تأييدهم للتطبيع مع اسرائيل، ثم توالت الدعوات التي انطلقت من البعض أبرزهم والي القضارف السابق كرم الله عباس، وبعض مؤيدي التيار الإسلامي كدكتور الكودة، وخرجت الدعوة مرة أخرى من مبارك الفاضل رئيس حزب الامة، وكان وقتها يشغل موقع وزير الاستثمار.
كذلك يحدثنا التاريخ السوداني الحديث وتشير بعض الوثائق للقاءات تمت بين سياسيين سودانيين مع سياسيين اسرائيليين، كان مسرحها بعض العواصم الغربية، كذلك يحفظ أهل السودان قصة اليهود الفلاشا التي جرت أحداثها إبان فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، وهي قصة معروفة تم فيها نقل اليهود الفلاشا الاثيوبيين الى اسرائيل عبر الأراضي السودانية، وشارك فيها عسكريون وامنيون سودانيون، وقصة الفلاشا دليل إثبات لتواصل وتعاون بين الخرطوم وتل أبيب.
أما في وقتنا الراهن، وبالتحديد فترة ما بعد الثورة، وبرغم حالة (التوهان) التي تعيشها النخبة السياسية، وحالة عدم الاستقرار السياسي، خلال ما عرفت بالفترة الانتقالية، والتي استلمت فيها السلطة مجموعة العسكر وقوى التغيير، ثم رجعت السلطة من جديد للعسكر لينفردوا بالحكم، وحتى الان، في ظل تفاعل مفاوضات الاطاري وغيره، ظهر موضوع التطبيع بمشهد أكثر وضوحاً، وهو الاتجاه الذي مثله البرهان، ومضى فيه خطوات، وشهدت هذه الفترة من عمر السودان لقاء عنتبي بين الرئيسين .. تلته لقاءات الامارات بين دبلوماسيين سودانيين في مباحثات اتفاقية ابراهام وهي في أصلها اتفاقات تعاون بين دول عربية وتل ابيب، وكانت الخرطوم من بينها.. أيضاً شهدت هذه الفترة زيارات (معلنة) من الجانب الاسرائيلي للسودان شاركت فيها شخصيات عسكرية وامنية، ثم تحدثت تقارير إعلامية عن زيارات مماثلة قام بها سودانيون سراً لتل أبيب.. واختتمت هذه الزيارات بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي الخميس الى الخرطوم على رأس وفد رفيع المستوى والتقى خلالها القيادة السودانية، وجرت مباحثات صدرت بها بيانات إعلامية من الطرفين، و ضحت فيها درجة التفاؤل العالية من الجانبين أن هذا العام سيشهد توقيع اتفاق تطبيع بين الدولتين.
الزيارة، وجدت ردود افعال متباينة، في صعيد الأحزاب السودانية، بعضها استنكر الزيارة واستهجنها، وهؤلاء بينهم (التيار الاسلامي- والشعبي- والحزب الناصري)؛ وهناك من ايد الزيارة أو ساندها حتى بالصمت، لكن أبرز بيانات الاستهجان جاءت من الفصائل الفلسطينية التي رأت أن خرطوم اللاءات الثلاث سقطت في فخ التطبيع.
ما أريد أن أقوله في ختام هذه المساحة، ليس تأييداً أو رفضاً لعملية التطبيع، لاعتبارات أهمها أن السودان دولة ذات قرار، ويحق لها أن تسلك الطريق الذي تريده، وليس المطلوب منها أن تتقدم صفوف المدافعة عن قضية فلسطين، لان الفلسطينيين أنفسهم وقعوا اتفاقيات تطبيع مع اسرائيل بكل فصائلهم بلا استثناء.
ما أريد أن اقوله، هو تساؤل موضوعي، يطرأ على كل سوداني، وهو ما هي فوائد التطبيع مع اسرائيل بالنسبة للسودان؟ وهل تمت دراسات من خبراء وأصحاب تجربة شملت كافة المجالات، ام الأمر مجرد اجتهادات من سياسيين قابلة للخطأ.. وإذا كانت الإجابة نعم، فالشعب السوداني له الحق في معرفة تفاصيل هذه الدراسات.. وإذا جاءت الإجابة بلا، فمن الأولى البداية بالدراسات اللازمة في موضوع التطبيع، وترك اللهاث السياسي غير المدروس.
صحيفة الانتباهة