(1)
عندما تهزمنا السياسة ويغلبنا الواقع ، اعود الى محمد عثمان وردي ، استمع لأغنياته ، انتشى لها ، وأحارب بها ، فامتلأ ثقة بهذا الوطن الذي نفتخر به كثيراً ، فنحن لا نملك اجمل منه وليس عندنا ما هو اغلى من السودان.
مع كل التشويهات والتقرحات التى قصدوها به ، يظل هذا الوطن جميلاً – المعاناة فيه لا تعني لنا إلّا المزيد من التمسك به.
هذا الوطن جميل ، كفى انه قدم محمد وردي ، هذا لوحده يعني ان السودان دولة (مبدعة).
اذا جاء العالم بثرواته وبنفطه وجواهره ولآلئه ودرره وذهبه وجاء السودان بوردي كانت الغلبة لنا.
محتوى مدفوع
محاكمة سيدة حاولت إدخال كميات من الحبوب المخدرة للبلاد
الكفة التى فيها وردي هي الراجحة دائماً.
نحن في حضرة محمد وردي نقول ما قاله الفرزدق في الفخر (أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ).
وهذا (وردي) اذا جمعتنا المجامع.
لو كنت وزيراً للداخلية لجعلت اللون الرسمي للبطاقة القومية (وردي)… فهو (رقمنا الوطني) الذي نفاخر به.
(2)
في السودان لا نخطط للأشياء ، الابداع يأتي كهذا متدفقاً كمياه الفيضانات. الكثير من الاشياء لم نقصدها ولم نرتب لها، رتبت لها (الاقدار) فأحسنت اخراجها، لو كان الامر بيدنا او بيد شركة عالمية او مؤسسة دولية محترفة لما فعلت افضل مما جاءت به (الصدفة).
لم يقصد محمد وردي بالتأكيد ان يغني للطفولة او لطفلة ليجعلها (رسالة) في الكثير من اغنياته .. حتى اني اصنف اغنيات وردي هي اغنيات (البراءة) نفسها ، لأنه غنى للحب بتعفف وحياء ولطف ، فهو كأنه يغني لطفلة.
اشبّه اغنيات وردي بالأطفال ، لأن اغنياته فيها كل براءة الطفولة وروائعها.
(3)
وردي في اغنياته اكثر من (طفلة) ، حتى اغنياته الوطنية والثورية لا تخلو من ذلك ، مع هذا لم ترصد هذه الظاهرة (الفنية) الفلكية الغريبة ، ولم يتوقف وردي نفسه عندها ، غير اني انتبهت لها مؤخراً… تمنيت لو اني سألت وردي عن تلك (الطفلة) التى توجد في اغنياته .. حاورت وردي مرتين ، مرة عندما عاد من الخارج في 2005 في عمارة المجانين في السوق العربي ومرة قبل رحيله بأقل من ثلاثة شهور في منزله بالمعمورة في ديسمبر 2011م وهو يجري في بروفة حفل رأس السنة التى كانت اخر حفلة يغني فيها وردي قبل ان يرحل في 18 فبراير 2012م. فات عليّ ان اسأله عن (الاطفال) في اغنياته.
وردي يبقى هكذا تكتشف فيه جديداً في كل يوم.
(4)
في (الحزن القديم) تلك الطفلة التى جاء بها عمر الطيب الدوش كدليل اثبات. لم اجد تشبيهاً في (التأصيل) اقوى من هذا التأكيد الذي اثبته الدوش في صوت (طفلة) وسط اللمة منسية، حيث يغني وردي :
بتطلعي انتي من غابات ومن وديان ومني انا
ومن صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية
ومن شهقة زهور عطشانة فوق احزانها متكية
بتطلعي انتي من صوت طفلة وسط اللمة منسية
لماذا جعلها الدوش (منسية)؟
لو كان في الحب ارقام وطنية وبطاقة قومية او شهادة بحث لكان هذا المقطع لوحده يكفي لاستخراجها ومنحها بدون رسوم.
طفلة الدوش التى هي وسط اللمة منسية هي تلخيص لواقعنا اليوم ، فهي مهما صرخت لن يسمعها احد.
اسحاق الحلنقي في (اقابلك) سرد حكاية اخرى وعرض (طفولة) في منتهى الروعة من خلال (طفلين) كلامهم كله بالهمسة.
لا توجد (مقابلة) اروع من هذه (التقابل) الذي حدد الحلنقي لغته.
ونحن نقابلو
زي (طفلين) كلامهم كلو بالهمسة
وزي عصفورة قلبها دابو
حنة وبالولف حسّ
مع ان الحلنقي اثبت الحالة بالهمس ، إلّا ان هذا (الهمس) اشهر (حديث) في الاغنية السودانية ، هو لو كان (جهراً) لما بلغ هذه الدرجة من (العلن) والوضوح.
محمد وردي لم يكتف بذلك في (طفولات) اغنياته العاطفية وإنما فعل ذلك حتى في اغنياته الوطنية والثورية.
في (عرس السودان) يشهد الشاعر محمد مفتاح الفيتوري بثوريته حينما يقال : (فد لعيني طفلة… غازلت دموعها.. حديقةً في الخيال).
قد تكون هناك (طفلات) أخريات ، لكن تبقى هذه النماذج دليل على ان فلسفة وردي الغنائية حتى ولو لم يخطط لها كان للأطفال دور كبير فيها، وهذا دليل على براءة اغنيات وردي وفي نفس الوقت يؤكد (عمق) هذه الاغنيات، لأن النماذج السابقة كانت فيها دلالات لرسائل عميقة.
سوف نعود للموضوع ببحث اشمل.
(5)
بغم
في السودان.
النيل الازرق.
والنيل الابيض.
والنيل الوردي.
وكل الطرق تؤدي الى (المدنية).
صحيفة الانتباهة