استمعتُ باهتمام لمحاضرة ألقتها الدكتورة نيفين مسعد، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة حول مفهوم “الانتقال الديمقراطي” بمقارنة الحالة السودانية بتجارب دول، مثل: رواندا، وجنوب أفريقيا، وتشيلي، وخَلُصت المحاضرة إلى أن القواسم المشتركة تسمح بالاستفادة من تلك التجارب في إنجاح الحالة السودانية.
شاركتُ بمداخلة في المحاضرة، فقلت للدكتورة إنه لا علاقة البتة بين تلك التجارب والحالة السودانية، بل ولا ينطبق مصطلح “الانتقال الديمقراطي” على السودان مطلقًا، فالحالة السودانية لا ينطبق عليها مصطلح “انتقال” بل “إصلاح”.
في السودان ولعٌ كبيرٌ باستخدام مصطلحات مُعلّبة جاهزة لتوصيف قضايا سودانية قد لا ينطبق عليها المعني الفني الدقيق للمصطلح، وفي العادة لا يحبذ المثقفون السودانيون -فضلًا عن العامة- التحديق في المعني الحقيقي للمصطلح، لأن الاعتقاد السائد أن استخدام المصطلحات –خاصة السياسية- يمنح الحديث درجة من الرقي والاستنارة غض البصر عمّا يؤدي إليه الاستخدام الخاطئ للمصطلح من تضليل في التشخيص يفضي لنتائج خاطئة بل أحيانًا كارثية ، كما حدث بعد انتصار ثورة ديسمبر على النحو الذي سأفصِّله هنا.
التجربة الحزبية السودانية ظلت مستمرة طوال عمرها الثمانيني رغم تغير العهود السياسية الحاكمة، فهل هي بحاجة إلى “انتقال” أم “إصلاح”؟
استمعتُ لسياسي شهير يتحدث في إذاعة سودانية كرر عبارة “الانتقال الديمقراطي” أكثر من 40 مرة خلال نصف ساعة، فهي عبارة تمنح الحديث فخامة لا يشترط أن ترتبط بمعنى حقيقي قابل للمس والنظر.
السؤال الحتمي الذي يتعلق بالحالة السودانية: ما الفرق بين “الانتقال” و “الإصلاح”؟ وهل السودان بحاجة إلى “انتقال” أم “إصلاح”؟
للمساعدة في الإجابة، تجدر الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية في السودان وُلِدت قبل ميلاده، حزب الأمة، مثلًا، تأسس، في العام 1945، بينما نال السودان استقلاله، في 1956، أي أن الأحزاب عمرها يقترب من 80 سنة، بينما عمر السودان المستقل لا يزيد على 67 سنة.
خلال كل هذه السنوات الطويلة من عمر الأحزاب السودانية ظلت موجودة حتى في أقسى النظم الديكتاتورية، فهي إما حاكمة في العهود السياسية المدنية الحزبية، أو معارضة في العهود العسكرية الديكتاتورية، لكنها لم تعانِ من انقطاع حيوي في كياناتها مطلقًا، بل حتى زعامات الأحزاب ظلت محتفظة بقيادتها وسلطتها الحزبية حتى خلال الفترات التي أعلنت فيها الحكومات الديكتاتورية حل هذه الأحزاب.
السيد الصادق المهدي، مثلًا، ظل رئيسًا لحزب الأمة منذ الستينيات حتى وهو رهن الاعتقال لفترات طويلة خلال سنوات نظامي نميري والبشير.. وكذلك السيد محمد عثمان الميرغني منذ تولّى زعامة الحزب قبل أكثر من 50 سنة لا يزال في موقعه القيادي رغم العهود العسكرية التي مرت على السودان خلال كل هذه الفترة الطويلة.
التجربة الحزبية السودانية ظلت مستمرة طوال عمرها الثمانيني رغم تغير العهود السياسية الحاكمة، فهل هي بحاجة إلى “انتقال” أم “إصلاح”؟
الانتقال فنيًا يعني التحول من نقطة “أ” إلى “ب”، بافتراض أن “أ” منقطعة كليًا عن “ب”، لكن “الإصلاح” يعني “التطور” وهو عملية مستمرة مرتبطة بوجود الكائنات الطبيعية أو الاعتبارية، فحتى الدول إذا لم تمارس “الإصلاح” بمعنى “التطور” تشيخ ثم تموت كالإنسان تمامًا، أين الاتحاد السوفيتي؟ أين يوغسلافيا؟
في الحالة السودانية كان الأولى أن يكون “الانتقال” أيامًا معدودات تتسلم فيها حكومة مدنية السلطة من المكون العسكري الذي أطاح بالنظام السابق لصالح صورة شعبية.
صحيح أن “الإصلاح” أحيانًا قد يتطلب طفرة يمكن أن تقع تحت مفهوم كلمة “انتقال”، لكنها هنا مجرد حالة عابرة سريعة أشبه بالطائرة التي تندفع في مدرج الإقلاع لبناء السرعة اللازمة للتحليق في الفضاء، فالانتقال هنا إجراء لحظي عاجل يمهد فقط لبناء عملية الارتقاء المستمر.
في الحالة السودانية، كان المدرج الذي احتاجته الطائرة للاقلاع (أي الانتقال) هو من النقطة “أ” وهي 19 أبريل 2019 إلى النقطة “ب” وهي 17 أغسطس 2019 عند توقيع الوثيقة الدستورية التي تشكلت بموجبها الحكومة، أي 4 أشهر فقط هي المرحلة التي استغرقتها المفاوضات بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري للوصول إلى “الوثيقة الدستورية” التي شكلت نقطة البداية لعهد جديد، وليس لـ”انتقال” جديد.
لكن الخطأ الجسيم الذي عانت منه المكونات السياسية السودانية أنها افترضت –أو تعمَّدت- الوقوع في فخ مصطلح “الانتقال” واعتبرته فترة “منزوعة القانون والمؤسسات”، فأصبح مفهوم الانتقال هنا ضد مصطلح الإصلاح والتطور بل منح الإحساس بالحاجة لهدم كل ما هو قديم دون اعتبار لمبادئ النشوء والارتقاء.
والدليل على ذلك، في ظل النظام القديم المطاح به شعبيًا كان في السودان برلمان، ومحكمة دستورية، ومجلس للأحزاب، ولكن بعد الثورة، وعوضًا عن إصلاحها وتطويرها، وئدت تمامًا، فتفسير مصطلح “انتقال” أعطى الحق بتعطيل مؤسسات مهمة بدلًا من إصلاحها وتطويرها.
في الحالة السودانية كان الأولى أن يكون “الانتقال” أيامًا معدودات تتسلم فيها حكومة مدنية السلطة من المكون العسكري الذي أطاح بالنظام السابق لصالح صورة شعبية، و”الانتقال” هنا بالمعنى الفني الدقيق مجرد عملية تسليم للسلطة “Handover” لا أقل ولا أكثر، وأن تبدأ مباشرة بعد ذلك مرحلة “بناء الدولة” وهو معنى يدلل على الإصلاح، والتطور الطبيعي، والمحافظة على استدامة نمو في عُمر الدولة وخبرتها بصورة طبيعية أشبه بما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية.
تأسست الولايات المتحدة الأمريكية بموجب دستور من 7 بنود فقط، لم يكترث في البداية حتى لحقوق الإنسان الحتمية، ورغم تعرضها لتقلبات سياسية كبرى وصلت مرحلة الحرب الأهلية ومقتل قرابة المليون فيها، إلا أن الدستور استمر “يتطور” عبر تعديلات وصلت الآن إلى 27 تعديلًا شملت قضايا أساسية مثل السماح للمرأة بحق التصويت في الانتخابات دون أن يتطلب ذلك استخدام مصطلح “انتقال”، فهي عملية تطور طبيعية مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
السودان اكتملت فيه مؤسسات الدولة منذ عهد الإدارة البريطانية قبل الاستقلال، ويشمل ذلك وجود الأحزاب، والبرلمان، والممارسة الديمقراطية، في أول انتخابات العام 1953، فالذي يحتاجه الآن هو تطور “بناء الدولة الحديثة” وليس مصطلح “الانتقال الديمقراطي” بمعناه الذي أدى لغياب القانون ومؤسسات هي من صميم مطلوبات الديمقراطية مثل البرلمان، والمحكمة الدستورية، وغيرهما.
إرم نيوز