الثورة .. والثوران والثَوْر كلمات تدل علي الحركة والفوران .. وعدم الثبات وارتبطت في تاريخ الإسلام بالاحتجاج والتمرّد كما في خروج أهل الهامش والأمصار علي ذي النورين عثمان بن عفّان ثالث الراشدين ومجهّز جيش العسرة وزوج بنتي رسول الله ..
وقد وردت في القرآن لفظة مشتقة من الجذر الثلاثي للثورة في قوله تعالي في سورة الروم:
“أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”
سورة الروم الآية ٩.
ويقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية:
” وَأَثَارُوا الْأَرْض يَقُول : وَاسْتَخْرَجُوا الْأَرْض , وَحَرَثُوهَا وَعَمَرُوهَا أَكْثَر مِمَّا عَمَرَ هَؤُلَاءِ , فَأَهْلَكَهُمْ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ” تفسير الطبري،
وكذا ذكره الجلالان: حرثوها وقلبوها للزرع والغرس وهي أفعال تستلزم الحركة الكثيرة، ولكنها في باب النماء والعمران وليست كثورة السودان الماسورة ..
أما المقابل الإنجليزي للثورة فهي كلمة revolution وهي تتركب من مقطعين هما re وevolve وتعني النمو المطرد أو المتدرج أو تقبّل الإنسان لفكرة ما أو عقيدة
أي أن الكلمة ذات المقطعين تعني: إعادة نمو الشيء أو إعادة تطوره أو تقبّل فكرة أو اعتقاد ما.
والخلاف في مدلول الكلمتين في اللغة العربية واللغات اللاتينية لا يقتصر علي الجانب اللغوي بل هو أعمق أثراً وأكثر تعبيراً عن الاختلاف في الثقافة والتاريخ والحضارة ..
إذ تعني الثورة عندنا الحركة الكثيرة لفعل شيء ما بينما هي في اللغة الإنجليزية وما سار علي نهجها من لغات لاتينية تعني إعادة بعث وصياغة ونضج واكتمال وتطور فكري ..
وكلها معانٍ إيجابية تصبّ في النهضة والبناء علي بصيرةوذلك عكس الثورة والدوران بلا علم ولا هديً ولا كتاب منير والسعي للفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والإنترلوك وأعمدة الإنارة وتخريب المستشفيات والجامعات..
وإذا تركنا اللغة جانباً وتأملنا فيما أسموه في السودان ثورة فسنجدها حركة ومسير ورقص وغناء وشعارات وموائد مبسوطة وظلال ممدودة وكؤوس مسكوبة وخمر ومخدرات وغول وتأثيم إلا ما كان من مهران وجماعته وبعض الطائفيين وكثير من الذين جذبتهم الجلبة وحب الاستطلاع والمائدة العيد .. وبعض السابلة المتسكعين الذين زاروا الاعتصام سياحة وترويحاً مثلي ..
وبعد أربعة أعوام من تلك الفورة فلننظر ماذا حصدنا .. سوي الريح كما قال وردي ..
فقد تدحرج السودان في اقتصاده من موقعنا السابع في القارة في عام ٢٠١٠ لنحتل المركز السابع عشر حالياً وجيشنا تزحزح عن مرتبته إلي المرتبة الثامنة
وانتقل السودان من كونه أملاً يرتجي لإشباع الجوعي قمحاً ولحماً وتمنياً إلي أرض قفر يباب تعجّ بالمتسولين وعصابات النهب المسلّح (تسعة طويلة) ومليشيات أهلية تجوب مدنه وقراه بعين قوية وبعلم ورضي المرفعينين الضبلان والهازل في رأس الدولة .. يهرّف أحدهما بما لا يعرف .. ولا ندري إن كان الآخر يدري بما يهرف أم لا يدري والأكيد فيه أنه متردد هيّاب جعل بلادنا تأتمر بأمر السفراء والمندوبين والعملاء وتسعة طويلة وكونتنيرات الآيس وفولكر ..
فتعطّلت مدارسنا وأُغلقت جامعاتنا ونهبت المشافي والمصانع والمنظمات.. وشُرّد المؤهلون من وظائفهم واستبدّ الجاهلون فالعاجز من لا يستبدّ ..
كنا فيما مضي يهابنا جيراننا الأفارقة ويحترمنا إخوتنا العربان .. والآن نحن في رهط زعيط ومعيط لا نفيراً نفرنا ولا عيرنا غنمنا .. لا يؤبه لنا غبنا أم حضرنا ..
اُنتهكت حدودنا وصُودرت إرادتنا وتعطّلت مصالحنا الاقتصادية وصرنا أسري مستبعدين في بلادنا لا نملك نفعاً ولا ضرّاًً لأنفسنا ..
فلم تك تلك الهبة الديسمبرية ثورة أو فورة بل عيناً أصابت الأمة وأنزلت بها غمة وغصة وغبناً أسيفاً فلا كانت ديسمبر ولا أبريل ولا سمبرها وسنابلها وتبّت تلك الثورة وتبّ ثوّارها ..
وإسنا فيك يا سوداننا فقد هنت اليوم علينا …
*بابكر إسماعيل*
٢ / ٢ / ٢٠٢٣