رسمياً، دعت الحكومة المصرية الأطراف السياسية السودانية للمشاركة في ورشة بالقاهرة من 1 حتى 8 فبراير المقبل، تستهدف جمع كلمة القوى المدنية السودانية على صعيد واحد يسمح بتجاوز الأزمة السياسية الراهنة.
وكالمعتاد انقسمت الأطراف السودانية؛ فمجموعة الكتلة الديموقراطية أعلنت موافقتها، بينما أصدرت قوى الحرية والتغيير –المجلس المركزي- بياناً استخدمت فيه عبارة جافة “نرفض المشاركة” بل ونصحت الحكومة المصرية أن تبتعد عن هذا المسار لأنه يعرقل العملية السياسية، حسب البيان.
يبدو أن الجارة الشمالية مصر قررت تغيير سياستها التي ظلت تحاول التعامل مع السودان بعيداً عن التماس مع الشأن السياسي، لعلمها مدى الحساسيات التي تكنف هذا المسار، ولكن الأزمة السياسية في السودان في المرحلة الراهنة لم تعد شأناً داخلياً بعد أن أضحت على بُعد أمتار قليلة من وضع “الكارثة” التي تهدد أمن ووحدة البلاد بما يؤثر أيضاً على الأمن القومي المصري بصورة مباشرة.
ومع ذلك، يبدو أن الدور المصري لا يزال يلتزم بألا يغوص في مستنقع الخلافات السياسية السودانية، ويكتفي فقط بمساعدة الأطراف السودانية المتضادة أن تجد مظلة واحدة تحميها من هجير شمس الاحتراب المفضي لفشل الدولة السودانية بأكملها.
الدور المصري في الشأن السياسي السوداني ظل مستعصماً بالبُعد عن إثارة حساسيات التدخل، حتى في أعتى العواصف التي مرّ بها السودان خلال العقود الماضية.
ورغم استخدام الجانب المصري عبارة “ورشة عمل”، فالواضح أن المطروح على طاولة التداول سيكون أقرب لاتفاق سوداني بالخطوط العريضة يتحاشى التفاصيل، لكنه يسمح للمياه أن تتدفق بصورة طبيعية في جداول الوطن بعد أن جفت البلاد اقتصادياً وعانت من موجات هروب نحو الخارج بلغ في مصر وحدها نحو 5 ملايين سوداني يمثلون كل طبقات المجتمع من قمة الثراء إلى أدنى الفقر المدقع، تحتملهم مصر فوق ما عليها من التزامات تجاه شعبها في هذا الظرف العالمي المعقد.
غاية ما يتمناه المصريون من هذا اللقاء السوداني- السوداني بالقاهرة هو إدماج جناحي الحرية والتغيير المجلس المركزي والكتلة الديموقراطية في الاتفاق المؤمل أن يستعيد ما تبقى من الفترة الانتقالية، فهذا التوافق السياسي بين المجموعتين سيضمن للحكومة المدنية المتوقعة بعد الاتفاق أن تنشأ على منصة سياسية قوية تحميها من الهزات والزلازل فتُحصّن الفترة الانتقالية من مخاطر السقوط مرة أخرى.
ومثل هذا التوافق السياسي ما كان ليحتاج السفر إلى القاهرة، فهو أمر طبيعي الأجدر أن يتحقق تلقائيا بين المكونات السياسية السودانية، والكتلة الديموقراطية ميالة للالتقاء في منتصف الطريق مع نظيرتها، وتسوية الخلافات فوراً، لكن مجموعة المجلس المركزي تفترض أن الرياح الدولية تهب لصالحها وأن فرصة مواتية للانفراد بتشكيل المشهد السيادي والتنفيذي قد تضيع إذا ما توسعت مواعين المشاركة السياسية، فهي تجتهد في تضييق الأبواب والانفراد بما تبقى من الفترة الانتقالية.
وبكل أسف، هذا النهج من جانب مجموعة المجلس المركزي لن يُضَيّع عليهم الفرصة للمرة الثانية في إنتاج فترة انتقالية مستقرة، بل وسيضع السودان كله في مهب الريح بزيادة مخاطر القوى الممانعة خلال الفترة الانتقالية، إذا تحقق خروج المكون العسكري من السلطة، ولا يبدو أن المجتمع الدولي نفسه متحمس لانفراد المجلس المركزي بإدارة الفترة الانتقالية في مثل هذه الظروف التي تحيط بالسودان.
الدور المصري في الشأن السياسي السوداني ظل مستعصماً بالبُعد عن إثارة حساسيات التدخل، حتى في أعتى العواصف التي مرّ بها السودان خلال العقود الماضية، لكن يبدو أنه مع تزايد الاهتمام الإقليمي والدولي بالأزمة السودانية وقصور هذه الجهود حتى الآن عن بلوغ مرحلة بناء منصة إجماع سياسي سوداني، تبلورت فكرة إحالة الملف إلى مصر، عسى أن تساهم خبرتها وقربها من الأحزاب السودانية على مدى تاريخ طويل في إيجاد أرض مشتركة تصلح لبناء توافق سياسي مدني سوداني، اتفاق دولي على إسناد دور لمصر في العبور بالأزمة السودانية بعد أن وصلت لهذا المنزلق.
إذا ما أصرت قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي – على رفض النصح بفسح قاعدة المشاركة السياسية، فستحكم على الاتفاق الإطاري بالعدم.
في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الملف السوداني، درجت على استخدام الجزرة والعصا، الترغيب والترهيب، ليس على المستوى المؤسسي فحسب، بل حتى على مستوى الأشخاص، فتوقع الحكومة الأمريكية عقوبات مباشرة على بعض الشخصيات، لكن في طبيعة العلاقة بين السودان ومصر، لا تبدو مثل هذه السياسة مقبولة، ولذا تحرص مصر على حصر وعودها في ما يمكن أن يتحقق للسودان من مصالح بدعم مصري في المؤسسات الدولية.
في عز هجير الخصومات السياسية بالسودان، تعودت الأحزاب السياسية أن تلوذ بمصر من غضب السلطات الحاكمة، مما وفر لمصر علاقات متميزة مع الأحزاب والساسة كافة، فهل حان وقت الاستنصار بهذه العلاقات للتوصل إلى خط أفق يسمح بإخراج السودان من أزمته؟
صعوبة الإجابة هنا لا تعني صعوبة السؤال، بل واقع الحال السياسي في السوداني الذي لا يقرأ من خريطة موجهة أو معادلات موضوعية أو حتى تقدير ظرفي مبني على التكتيك، فالملعب السياسي السوداني يعتمد على القَدَرية أكثر من العِلمية في حسابات القرارات والمواقف، أشبه بما حدث للخليفة عبد الله التعايشي في القرن التاسع عشر وهو يواجه الجيش البريطاني بما ما يملكه العدو من خبرات عسكرية واستخبارية وسلاح متقدم..
فكان الخليفة يعول على الأحلام والرؤيا المنامية لصناعة القرار، فأدى لإفناء أكثر من 10 آلاف من السودانيين في أقل من ثلاث ساعات في معركة غير متكافئة الجمعة 2 سبتمبر 1898 بمنطقة “كرري” شمال أمدرمان.
قَدَرية القرار السياسي في السودان تجعله ينظر للمواقف المصيرية بروح الشاعر محمد المهدي مجذوب:
لا يبالون وقد عاشوا الردى..
جنحوا للسلم أم ضاعوا سدى..
أيكون الخير في الشر انطوى..
إذا ما أصرت قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي – على رفض النصح بفسح قاعدة المشاركة السياسية، فستحكم على الاتفاق الإطاري بالعدم.
وحينها لن يكون ممكنا سوى التعويل – داخلياً وخارجياً – على مخرج سياسي تقوده الأحزاب التقليدية، ويتكرر التاريخ الذي يجعل دائماً لقاء السيدين هو الغالب.
عثمان ميرغني
إرم نيوز