صلاح الدين عووضة يكتب : شَاي لبن!
لعبة قنقا..
أما اسمه فلا أذكره… ولا يهم… بقدر ما كان يهمني ظرفه… وشايه باللبن..
فقد كان ظريفاً جداً؛ وشِعره الفطير أشد ظرفاً..
كان يطرز شعراً من نسيج لحظة فكِهة؛ فيجيء بطعم عصير الفاكهة..
أما أغرب ما في شعره الطفولي هذا صدق التنبؤ..
فشعره دوماً تنطوي بعض أبياته على توقع حدوث شيءٍ ما؛ فيحدث..
وذات أصيلٍ كنا نجلس بجوار بيت جيراننا..
ورب البيت هذا – عبد المتعال – جمعتنا مع أبنائه علاقةٌ أقوى من الجيرة..
وأثناء جلوسنا ذاك خرج علينا ابنه كمال..
وحسبه قنقا أتى لمشاطرتنا المجالسة… والمؤانسة… والمفاكهة… والممازحة..
غير أنه اعتذر بأنه ماشي الدكان..
فلما رجع – وهم بفتح باب بيتهم – انطلق قنقا ينشد غاضباً من وحي اللحظة:
تانــي أمشــي….. وتانــي تــعال
مــا يُســـمى ود عــــبد المــتعال
وتاني رجلك دي بكرة يا كــمال
ترتاح من أمشي….. ومن تعال
وبكرة انكسرت رجل كمال خلال لعبنا كرة القدم… ووُضعت في الجبص..
وما عاد – زمناً – يسمع كلمة أمش… ولا تعال..
وبخلاف جلسات الظرف هذه معه كنا نسعد بدعواته لنا إلى جلسات شاي..
وهو كان من أبناء ساكني قطاطي السكة الحديد..
وما كان هنالك متسعٌ لجلسة الشاي هذه إلا في الحوش الوحيد بالمنزل..
والذي تشغل جانباً منه تعريشة بمثابة مطبخ..
فكنا نشاهد أمه وهي تحلب المعزة… وتعد الشاي… وتترنم بأغانٍ شجية..
ثم تجلب لنا مع الشاي قرقوشاً..
فكان في نظري أطعم شايٍ – بلبنٍ مقنن – يمكن أن يحتسيه عاشقٌ للشاي..
وكانت عيشتهم هذه في نظري أحلى عيشة..
وحسدت قاطني حي القطاطي على بساطة حياتهم… وبسطة سعادتهم..
ثم حدث ما فاقم من حسدي هذا..
أو – بالأحرى – ما حرمني من حالة استشعار ما كانوا فيه من سعادة..
فقد وقعت مخاشنة بيني وبين قنقا..
فما عاد يدعوني إلى جلسات الشاي المقنن؛ ولا جلسات الأنس المستظرف..
ولا أدعوه أنا إلى ما كان يرى نفسه محروماً منه..
وأكثر ما كان يرى أنه محرومٌ منه التفاح؛ ويعجبه كإعجابي بشايه المسائي..
ثم حدث ما هو أسوأ من ذلك؛ وما كنت أخشاه..
فقد هجاني بأبيات – لا أذكرها – تبدأ باسم صلاح… وتنتهي بكلمة تفاح..
ولكني أذكر ما بينهما جيداً… مقروناً بكلمة تاني..
فقد كان دعاءً عليَّ بأن لا آكل – تاني – تفاحاً أبداً؛ وإن أكلته لا استطيبه..
فبت لا آكل التفاح؛ وإن أكلته لا استسيغه..
وظللنا على هذا الحال إلى أن غادرت الحي وفي نفسي شيءٌ من قنقا..
وشيٌ من شعرٍ ذي نبوءات… وشايٍ ذي مخبوزات..
والآن تهفو نفسي إلى سعادةٍ كالتي كنت استمدها من سعادة أصحاب القطاطي..
من بساطة مسكنهم… وعيشتهم..
وترانيم شجية تحت تعريشةٍ؛ عقب حلب عنزةٍ ذات ثغاء هو نفسه شجي..
وشايٍ مُقَنّن!.
صحيفة الصيحة