عندما كنت أعمل في جريدة إمارات نيوز الإنجليزية قمت ذات يوم بإغلاق عدد من مكيفات الهواء في صالة التحرير فجاء مدير التحرير الأستاذ القدير محمد عمر الخضر رحمه الله وقال: شوف ما في شي مقعدني في البلد دي غير المكيف والكهربا الما بتقطع.. ما عايز مكيف ارجع أهلك في بدين.. ولم أرجع بدين او غيرها لأنني لا أطيق الحر ولا أطيق “سيرته”، وتحالف الحر مع الرطوبة في الخليج شيء مرعب، ولهذا أتمنى ان يكون الشتاء “لايوق” كما البرهان ويستمر سنة او أكثر
نشرات الأحوال الجوية في الدول العربية في فصل الصيف، لأن من يقومون بإعدادها ذوي نزعات إرهابية: مسقط 48 درجة مئوية، مقديشو 50 درجة، الخرطوم 72 طن متري. مع احتمال هبوب عواصف ترابية تتسبب في انخفاض الرؤية (ونحن أصلاً نعاني من ضعف النظر السياسي والاجتماعي) !! هل أنا دلوع؟ نعم وبكل فخر!! لماذا لا أدلع نفسي بالجلوس والرقاد في أماكن مكيفة؟ أول مرة أتعامل فيها مع الكهرباء كان عمري نحو 16 سنة عندما قدمت من شمال السودان إلى الخرطوم للالتحاق بالمدرسة الثانوية، وأذكر أنني ظللت جالساً لنحو خمس ساعات أتأمل المصباح الكهربائي في الشارع الذي ظل مضيئاً بوتيرة ثابتة رغم وجود نسمات هواء قوية، فشلت في إطفائه. وكانت تلك أيضاً أول مرة استحم فيها بالدُش، وظللت واقفا تحته لمدة طويلة، وأنا أحس بأن جلدي يرتوي تدريجيا، بينما كنت قبلها استحم بماء أقوم بغرفِه من جردل (سطل) وأنا أتوسط طشت صفيح يتطلب الوقوف بداخله مهارات لاعب سيرك
للدخول في المدارس الثانوية كانت يتنافس طلاب مئات المدارس المتوسطة على مقاعد في نحو عشر مدارس ثانوية (هو إجمالي ما كان متاحاً منها في ذلك الزمان)، وكان ذلك يعني أن على الإنسان أن يستذكر دروسه بعنف وشراسة في وجه المنافسة الشرسة كي يجد مكاناً في مدرسة ثانوية، ولأنني من أسرة برجوازية بدليل أنني كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية على ظهر حمار، فقد زودني أهلي بلمبة (مصباح) يعمل بالجاز الأبيض (الكيروسين)، وكنت حين أذاكر دروسي ليلا أضع بطانية حول جسمي كي لا يتسلل ضوء المصباح إلى من ينامون حولي، ولحسن الحظ لم يكن ثاني أوكسيد الكربون موجوداً في تلك الأيام، ولعله كان موجوداً ولكنه كان من النوع الحميد الذي لا يسبب تلفاً في الرئة، فقد كنت أستنشق الدخان المتصاعد من اللمبة بكميات تجارية، ولكن كنت أحياناً أعجز عن إشعال اللمبة لعدم وجود كبريت!! كان الكبريت في تلك الأيام عملة صعبة وكان الناس يبقون على النار مشتعلة في غرفة تسمى مجازاً “مطبخ” حتى لا يضطروا إلى استخدام الكبريت أبو مفتاح المصنوع في تشيكوسلوفاكيا، وكان من المألوف أن يتم إرسال الصغار إلى بيوت الجيران كي “يجيبوا النار”.. يعطونك عوداً مشتعلا فتهرع به إلى بيتكم. وكانت الأداة الأفضل لنقل النار هي بعر الحمير، الذي هو في حجم الدوم الصغير وبيضاوي الشكل (ما لم يكن الحمار مصابا بإسهال) وبعر الحمار الجاف مليء بأعشاب دقيقة تتفاعل مع النار دون ان تسري فيه بسرعة، بينما كان بعر الغنم يستخدم وقودا تحت الصاج عند إعداد الكسرة، (وليس الطبخ)، أما بعر الإبل فقد كان عملة نادرة في بدين وللحصول عليه كنا نذهب الى “أراب إكي”/ حي العرب، وبعر الجمل في حجم وشكل بيض الحمام ويكون صلبا بعد ان يجف، وكنا نستخدمه في لعبة ال”تور” التي تكون بوضع كمية من البعر ارضا ثم رمي حجر صغير الى أعلى وخطف اكبر كمية من البعر في نفس اليد التي تستقبل الحجر، ويتم توزيع التور الى بيوت كل منها يتألف من اربع بعرات ويفوز باللعبة صاحب البيوت الأكثر
سبحان الله والحمد لله كنا فين وبقينا فين!
جعفر عباس