هل تقود العلاقات المصرفية بين السودان وكينيا إلى الاندماج؟

تواجه المصارف السودانية أزمة كبيرة منذ أن فرضت العقوبات الأميركية والغربية على الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي وتتابعت تداعياتها متحدة مع تسارع موجة العولمة، ثم حدوث الأزمة المالية العالمية. لم يتوقف ذلك الانهيار، إذ فاقمته الاستدانة والقروض التي صاحبت الاستثمار الصيني في السودان، فضلاً عن القروض الدولية الأخرى، ثم فرضت تحديات أخرى على المصارف مع قيام الثورة السودانية ومحاولة استعادة الأصول المملوكة للدولة من النظام السابق وما صاحبهما من تجاوزات بسبب غياب القوانين والتشريعات التي تكفل بيئة سليمة للتعاملات المصرفية.

في يونيو (حزيران) 2021 أعلنت مجموعة البنك الدولي نهجاً جديداً لتعزيز التكامل الإقليمي في أفريقيا ومساندة القارة للتعافي من آثار جائحة “كوفيد-19” وتحقيق التحول الاقتصادي خلال ثلاثة أعوام. بعد ذلك الإعلان بأشهر أوقفت الإجراءات التي اتخذها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) مبادرات مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

وبحسب المجموعة، فإن المبادرة تعتمد على “الترابط الإقليمي في مجالات النقل والطاقة والبنية التحتية الرقمية، إضافة إلى تشجيع التجارة وتكامل الأسواق من خلال تسهيل التجارة في المحاور الاقتصادية الإقليمية والمساعدات الفنية لتطبيق اتفاق منطقة التجارة الحرة لقارة أفريقيا ومساندة سلاسل القيمة الإقليمية وتكامل الأسواق المالية”.

وقبل انتهاء المدة المقررة تحرك السودان في اتجاهات عدة من ضمنها كينيا التي زارها أخيراً نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي. وخلال لقائه الرئيس الكيني وليام روتو ونائبه ريغاتي جاشاغوا في نيروبي، اتفق الجانبان على توجيه وزارتي الخارجية في البلدين بضرورة الإسراع في استئناف العلاقات المصرفية والتعامل المباشر بين البنوك لتسهيل حركة التجارة والاستثمار بين الدولتين.

أزمات مستمرة

في الفترة التي ظلت خلالها المصارف السودانية تعاني أزماتها المستمرة، كانت سوق عمليات الاندماج والاستحواذ المصرفي في دول المنطقة العربية والأفريقية تشهد تطوراً لافتاً، فتأثرت باندماج معظم البنوك في العالم مستفيدة من اتفاقات تحرير الخدمات المصرفية وتأثير الثورة التقنية والمعلوماتية وبروز تكتلات اقتصادية جديدة.

وإذا كان لجوء بعض الدول إلى الاندماج المصرفي، أي “الاتحاد بين مصرفين أو أكثر، سواء من خلال المزج الكامل بهدف تكوين كيان جديد، أو قيام أحد المصارف بضم مصرف أو أكثر إليه”، فرضته التطورات في النظم المالية والنقدية الحديثة، فإنه ربما يكون بالنسبة إلى السودان مخرجاً من أزمته الاقتصادية الحالية، خصوصاً في الإطار الإقليمي، بما يمكن أن يتيحه التعاون الإقليمي في خلق تكتلات واندماجات مصرفية تسهم في التنمية لإنقاذ الاقتصاد السوداني ودعمه من خلال توفير المساعدة للمشاريع المشتركة وتشجيع الاستثمار والتجارة البينية. وما يمكن أن تتيحه البيئة المصرفية الإقليمية، وهي الأقرب مكانة والأكثر تشابهاً مع النظام المصرفي السوداني، سيكون جوهر آليات تحقيق هذا الهدف، ولكن ذلك يعتمد على إزالة العقبات المتعلقة بواقع الاندماج المصرفي الإقليمي في ظل التحديات التي تفرضها الساحة المالية والاقتصادية الإقليمية والدولية، إضافة إلى هيكل البنوك السودانية وغياب القوانين والتشريعات.

اختلفت الآراء حول جدوى الدعوة إلى إقامة علاقات مصرفية بين السودان وبعض الدول الإقليمية، ففي حال استئنافها مع كينيا هناك واقعان يجب مراعاتهما بما يمكن تأطير هذا النمط من النمو وفقاً لهما، الأول، أن السودان لم يستطع تشجيع عمليات الدمج داخل حدوده الجغرافية من خلال إنشاء مصارف كبيرة تمتص الصدمات الاقتصادية الأخيرة، بالتالي لن تنجح محاولاته الإقليمية. أما الثاني، فهو أن الاندماج المصرفي الإقليمي يضمن تطور العمل المؤسساتي الذي فشلت فيه المصارف بالداخل بالاستفادة من آليات الضبط، مما يتيح لها فرصة الانفتاح على مؤسسات مالية عالمية ويلغي القيود أمام التدفقات المالية.

فقدان الثقة بالبنوك

يرى عميد كلية الاقتصاد والدراسات المصرفية في جامعة النيل الأبيض صلاح محمد إبراهيم “بدأت أزمة المصارف السودانية التجارية أو المتخصصة منذ جائحة كورونا وإضافة إلى ما تركته آثار الأزمة المالية العالمية عام 2008، شهدت المصارف انعدام السيولة وعدم توافر الأوراق النقدية داخل النظام المصرفي وتداول العملة المحلية والأجنبية في أيدي الجمهور”.

وأردف، “مشكلة السيولة أفقدت الثقة بالبنوك السودانية، إضافة إلى عدم استقرار الوضع السياسي واستمرار التظاهرات والإضراب عن العمل والفصل التعسفي للخبرات والكوادر المؤهلة. هناك أيضاً سياسات البنك المركزي والكساد التضخمي الذي أدى إلى ضعف قيمة العملة المحلية وضعف القوة الشرائية وانخفاض القاعدة النقدية بنسبة أقل من 50 في المئة ونمو عرض النقود بنسبة 23 في المئة”.

وأوضح إبراهيم، “شهدت البلاد كذلك تمدداً وتوسعاً أفقياً للبنوك بفتح أفرع للمصارف أقل من حجم النشاط الاقتصادي، مما زاد كلفتها التشغيلية وأضعف أرباح البنوك التجارية والمتخصصة، أو تكاد تكون هناك بنوك تعرضت لخسارة إذ لم تستطع الإيفاء بالتزاماتها تجاه الغير”.

وتابع “أدى ضعف رواتب الموظفين والكوادر البشرية وعجز المصارف عن توفير رواتب مجزية للعاملين والموظفين لديها إلى أن تضطر بعض البنوك إلى تسريح العاملين وتخفيض الموارد البشرية أقل ما يمكن. ومن البنوك ما أصدر منشوراً بالإقالة أو الاستقالة الطوعية بمزايا مغرية حتى يتم التخلص من عدد كبير من الموظفين والاستعاضة عنهم بالتقنية الحديثة والتحول الرقمي”.

إضافة إلى عدم الاستقرار الاقتصادي وتدهور سعر الصرف، أورد إبراهيم مشكلات أخرى دعت المصارف إلى تقليل الكلفة التشغيلية وإغلاق الفروع وتسريح العاملين وهي “تحجيم المصارف بالقيود بزيادة الاحتياطي القانوني 20 في المئة وعدم تمويل كثير من الأنشطة الاقتصادية وعدم السماح لها بالتمدد في التمويل وإلزامها بالتمويل الأخضر في القطاع الزراعي والتمويل الأصغر، وهذا النوع من التمويل طويل الأجل فوائده بسيطة”.

وعن واقع البنوك المتخصصة الحكومية قال عميد كلية الاقتصاد والدراسات المصرفية “تكاد تكون أوقفت نشاطها وتمويلها للقطاعات الاقتصادية التي تدعم الاقتصاد القومي لعدم كفاءة رؤوس أموالها وعدم التزامها اتفاقات ’بازل 1 و2 و3 و4‘، وعليه يمكن ملاحظة أن موقف البنوك المتخصصة أسوأ من المصارف التجارية والإسلامية. كما يمكن القول إن البنوك التجارية أصبحت مواقع أو محال تجارية صغيرة”.

وتابع “في ظل الغموض والضبابية الاقتصادية التي تتمثل في ضعف الإنفاق الإنتاجي وزيادة نظيره الاستهلاكي، تعاني المصارف الآن مشكلات مزمنة ومتراكمة ومتزايدة أقعدت الاقتصاد السوداني وهدت أركانه وقواعده وأحدثت تكلساً في عصب الاقتصاد السوداني. وعلى إثر ذلك تعطلت دورة النظام المالي والمصرفي، كما تعطلت مؤسسات مالية كثيرة في القطاع الخاص كشركات التأمين والمؤسسات المالية الأخرى وتوقف النشاط الاقتصادي العام”.

وعن أداء المصارف قال “معظم البنوك السودانية تتعامل بالإجراءات التقليدية البدائية وهي غير مواكبة للتقدم التقني والانفتاح العالمي والتحول الرقمي، ما عدا بنك واحد هو الذي يستخدم التقنية الذكية والتطبيق الذكي في التعاملات الإلكترونية المالية من تحويلات وتوريدات، مما سهل كثيراً من التعاملات المالية الرقمية. ولأن معظم الجمهور تحول إلى التعامل عبر تطبيق هذا البنك، فتأثرت البنوك الأخرى وفقدت عملاءها”.

وتوقع إبراهيم “خروج بعض البنوك من النظام المصرفي وإعلان إفلاسها نسبة للحال المتردية التي تمر بها البلاد من تدهور اقتصادي مريع وركود وفجوة اقتصادية”، موضحاً أن “ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إغلاق اقتصادي تتأثر به المصارف، بالتالي لا تستطيع التعامل مع المصارف التجارية الأخرى في دول الجوار ولا تستطيع أن تنافس بتقديم خدمات مصرفية إلكترونية متميزة، وربما يحدث اندماج مصرفي في الداخل نسبة إلى أن المصارف أصبحت عاجزة عن دعم الاقتصاد السوداني وعن تأمين سلامة موقفها المالي وغيرها من العقبات في ظل اقتصاد منهار يوماً بعد يوم”.

تعاملات مصرفية

من جهته قال الأستاذ المشارك في كلية الدراسات التجارية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا محمد الناير “يحتاج السودان إلى علاقات متميزة وجيدة مع كينيا بوصفها دولة جوار ويرتبط البلدان بكثير من القضايا المشتركة”.

ويرى أن “حجم التبادل التجاري بين البلدين لا يرتقي إلى المستوى المطلوب، إذ إن صادرات السودان إلى كينيا وفقاً لتقرير بنك السودان لعام 2021- 2022 هي أقل من 500 ألف دولار وهو مبلغ زهيد بالنسبة إلى صادرات السودان لكينيا، لكن الواردات تبلغ نحو 72 مليون دولار منها 45 مليون دولار واردات من الشاي الكيني الذي يعتمد عليه السودان، وهذا يشكل حجم التبادل التجاري، لكن يمكن أن يكون أفضل من ذلك بكثير خلال المرحلة المقبلة ومن خلال الزيارات المتبادلة والتوافق بين الدولتين على التعاملات المصرفية”.

وأوضح الناير “تشكل التعاملات المصرفية أهمية كبيرة نسبة إلى وضع السودان الذي يعاني مشكلات في التحويلات المصرفية، إذ لم تتدفق عبر البنوك العالمية على رغم رفع الغرب للحظر الاقتصادي الذي كان مفروضاً على البلاد عام 2017، ثم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2020، إلا أن هناك تعقيدات لا تزال تواجه السودانيين في التحويلات المصرفية”.

بنوك مشتركة

وأوضح الأستاذ المشارك في كلية الدراسات التجارية أن “تحرك السودان نحو التعاملات بين الدول وتوجيه قادة الدول للتعامل المصرفي بين السودان وكينيا خطوة جيدة وتحركاً مهماً باعتبار أن كينيا دولة لديها صلات مع السودان وهي عضو في السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا [كوميسا]، كما أنها تقع ضمن تكتل اقتصادي إقليمي في أفريقيا، مما يشكل أهمية في البعد الاقتصادي ويجعل الدول تتبادل السلع والخدمات بشروط ميسرة من دون تعقيدات أو حواجز”.

وعما يتطلبه تحقيق ذلك شرح الناير “يستدعي ذلك فتح بنوك مشتركة في السودان أو كينيا ما من شأنه تقوية التعاملات المصرفية من خلال إنشاء بنوك لها صلات وأفرع داخل البلدين من المفترض أن تدفع العلاقات إلى أن تتطور في المرحلة المقبلة كشراكة بين القطاع الخاص في الدولتين لتسهيل حركة التعاملات المصرفية”.

وأضاف، “يتطلب ذلك تقوية البنوك السودانية لأن الدولة لم تهتم بهيكلة المصارف ولا تزال رؤوس أموالها ضعيفة وتحتاج إلى كفاءة رأس المال حتى تكون في المعدلات العالمية. ومعلوم أن المعدل العالمي لكفاية رأس المال هو 12 في المئة، والسودان في العام الماضي كانت كفاية رأس المال لديه حوالى 7 في المئة، مما يتطلب رفع رؤوس أموال البنوك السودانية حتى تكون مستوفية للمعايير العالمية وتتمكن من التعامل مع البنوك على المستويين الإقليمي والدولي”.

وتابع “الاندماج المصرفي يحتاج إلى أن يعيد السودان هيكلة المصارف بتقوية رأسمالها وأي مصرف غير قادر على تقوية رأسماله يجب أن يندمج مع مصارف أخرى لها كيانات مصرفية قوية”.

مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية

Exit mobile version