قضاة السودان “تحت المنظار” لتفكيك نظام البشير
مؤتمر خريطة الطريق يوصي بإعفاء جميع أعضاء المحكمة العليا ورؤساء النيابات وإخضاعهم للفحص والتدقيق وقانونيون يدعون إلى تطبيق "من أين لك هذا؟"
معركة جديدة تلوح ملامحها في أفق التطورات السياسية السودانية، تحملها توصيات مؤتمر تفكيك نظام البشير، كأول التحديات التي تنتظر الحكومة المدنية المرتقبة للانتقال من دولة الحزب إلى دولة المواطنة، لتعود من جديد عملية التفكيك واسترداد الأموال، بعد انتكاسة التجربة السابقة وارتداد كل قراراتها بموجب إبطال دائرة الاستئنافات بالمحكمة العليا لمعظم قرارات إعادة الأموال والمنقولات والمؤسسات المصادرة إلى أصحابها مرة أخرى، عقب انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
أدوات ومعايير جديدة
لكن التفكيك يتخذ هذه المرة أدوات ومنهجاً ومعايير مستحدثة، وفق توصيات “مؤتمر خريطة طريق تفكيك الثلاثين من يونيو 1989″، كأولى فعاليات المرحلة النهائية للعملية السياسية لتطوير الاتفاق الإطاري إلى اتفاق نهائي يعقبه تكوين الحكومة المدنية وبقية مؤسسات وهياكل الفترة الانتقالية.
اختتم المؤتمر أعماله مساء الخميس 12 يناير (كانون الثاني) الحالي، بمشاركة واسعة وتمثيل مقدر للمكونات السياسية والاجتماعية والنظامية السودانية، مع الاستعانة بخبراء ومتخصصين من داخل السودان وخارجه، عرضوا تجارب مماثلة في تفكيك الأنظمة الشمولية عن مفاصل الدولة، لضمان سلاسة الانتقال الديمقراطي، وسط ترحيب ودعم ومشاركة الآلية الثلاثية والشركاء والأصدقاء الإقليميين والدوليين.
تناول المؤتمر الأبعاد السياسية لتفكيك نظام المؤتمر الوطني المنحل، ومظاهر الفساد والتمكين التي سادته ببناء دولة موازية سيطرت فيها عناصر الحزب على جميع مؤسسات الدولة وجرى من خلالها نهب موارد البلاد البشرية والمادية وتبديدها.
شهدت جلسات المؤتمر مداولات ساخنة، شدد فيها المتحدثون على ضرورة أن تشمل عمليات تفكيك نظام المؤتمر الوطني المنحل خلال ثلاثة عقود، أيضاً كل التمكين والفساد في فترة ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.
أهمية وتعقيدات
في سياق عملية إصلاح شاملة للقطاع القضائي والعدلي أوصى مؤتمر خريطة التفكيك، بإعفاء جميع قضاة المحكمة العليا وتفويض سلطاتهم لقضاة الاستئناف، وكذلك إعفاء جميع رؤساء النيابات، مع إخضاع الجميع (قضاة وأعضاء النيابة العامة) للفحص والتدقيق.
وشملت توصيات المؤتمر، إجراء مراجعات شاملة لقطاعات النفط والتعدين والتعليم بكل مستوياته، ومراجعة الفساد في القطاع الخاص ومحاسبة المتورطين في اكتساب الأموال بطريقه غير شرعية بتفعيل قوانين “من أين لك هذا، والثراء الحرام، والمال المشبوه، وسد ثغرات نظم المكافحة الدولية”.
كذلك أوصى المؤتمر بتصفية جميع الواجهات الدينية للنظام البائد، وتكوين لجنة للمراجعة على المستويين المركزي والولائي، وإلغاء جهاز التحصيل الموحد، وتفكيك بنية التمكين في كل الأجهزة الإعلامية والرسمية منها على وجه الخصوص.
تجارب التفكيك
وأوضح المتحدث الرسمي باسم أطراف الاتفاق الإطاري خالد عمر يوسف في مؤتمر صحافي أن توصيات المؤتمر استندت إلى تقييم التجربة السابقة، مع التزام المعايير الدولية وسيادة حكم القانون واحترام الحقوق الأساسية، وتم رفعها إلى اللجنة التنسيقية العليا لأطراف الاتفاق، لتصبح خريطة طريق للتفكيك ضمن الاتفاق السياسي النهائي والترتيبات الدستورية الانتقالية.
وكان المؤتمر قد تناول بشكل مفصل تجربة دولة كينيا في تفكيك التمكين ومحاربة الفساد ونجاحها في فتح الطريق أمام التحول الديمقراطي. وأشارت رئيسة المفوضية الوطنية الكينية لحقوق الإنسان المتخصصة في تفكيك التمكين، روزا لين أوديدي، إلى أن فحص القضاة في كينيا كان ضمن التدابير الانتقالية المتعلقة بالعدالة والأحكام الانتقالية في دستور البلاد عام 2010، إلى جانب إعادة هيكلة مفوضية الجهاز القضائي وإنشاء المحكمة العليا وتعيين رئيس قضاء جديد مع استحداث “تعيين شفاف” للقضاة.
ودعا المتخصص الدولي في معايير التفكيك، ألكساندر مايير، إلى وضع أسس منهجية واستراتيجية لترتيب الأولويات وإنشاء مؤسسات قوية لعملية التفكيك، إضافة إلى إرساء سيادة حكم القانون، وإتاحة فرص الاستئناف والتظلم من دون تعقيدات بيروقراطية.
دروس سابقة
كما ناقش المؤتمر أوجه القصور والمعوقات والمشكلات التي واجهت التجربة السابقة وما حققته من إنجازات، حيث أكد الرئيس المناوب للجنة السابقة، محمد الفكي سليمان، استعدادهم للتعاون الكامل مع الوضع الجديد وتمليكه كل المعلومات والملفات، متوقعاً حظاً أوفر وجهداً أفضل للتجربة الجديدة في التفكيك تحت إمرة حكومة مدنية خالصة.
وأوضح سليمان أن التجربة الماضية على رغم ما شابها من إخفاقات سياسية وإدارية وقانونية، نتيجة لغياب استراتيجية واضحة للحكومة الانتقالية تجاه تفكيك التمكين، فإنها عبرت عن روح الثورة والتغيير وكشفت عن حجم الفساد وعمليات تخريب الاقتصاد ومؤسسات الحكم وحركة أموال النظام البائد.
وفي رؤيته أمام المؤتمر، شدد حزب الأمة القومي، على أنه ما لم يتم تفكيك الحكومة الخفية والموازية والتركة الثقيلة من الفساد والخلل الواسع في مؤسسات الدولة في النظام السابق، لن يكتب استقرار للنظام الديمقراطي، ما يجعل قضية التفكيك جوهرية ضمن استحقاقات التحول الديمقراطي وبناء الدولة السودانية الحديثة، وأسس الحكم الراشد.
قضايا عاجلة
حدد حزب الأمة عدداً من القضايا العاجلة التي تشكل خطراً على الثورة وتتطلب تصفية كاملة للأجهزة الموازية والتحفظ على ممتلكاتها، بتطهير حكومات الولايات بصورة كاملة، وإعفاء المسؤولين التنفيذيين الذين جاء بهم التمكين وما زالوا موجودين، وأذرعهم بالوزارات وجميع من أعيدوا بعد انقلاب 25 أكتوبر، والتحقيق الفوري والتحفظ على المفسدين وحجز أموالهم وحظرهم من السفر.
ونادى مساعد رئيس الحزب والقيادي بالحرية والتغيير صديق الصادق المهدي، المجلس المركزي بضرورة استمرار عمل لجنة التفكيك بصورة مهنية وسياسية لإنهاء دولة الحزب الواحد وكنس كل آثار ما فعله النظام السابق من تخريب متعمد وقرصنة لكل مرافق الدولة.
في السياق، وصف القيادي بالمؤتمر الشعبي كمال عمر، فساد نظام البشير بأنه “غير مسبوق”، مبدياً استعداد الحزب للتعاون مع لجنة التفكيك وتمليكها ملفات فساد حتى داخل حزبه.
بينما طالب الناشط القانوني محيي الدين أبو العز، بتشكيل مفوضية دستورية من الكفاءات الثورية المستقلة، على أن تتم هيكلتها إلى دوائر متخصصة وفقاً لأغراض التفكيك الإداري والسياسي والاقتصادي والقانوني والأمني والعسكري، لتؤدي أدواراً متخصصة تعمل جميعها تزامناً من القمة وحتى القواعد رأسياً وأفقياً، في التفكيك واسترداد الأموال بكل ما يتطلبه من حصر للأنشطة ومتابعة وقرارات.
استعادة الأموال والدولة
في السياق، يرى القانوني محمود الشيخ، عضو اللجنة السياسية للمحامين الديمقراطيين، أن تفكيك بنية النظام البائد يقوم على محورين، أولهما استرداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، وهذا لن يتأتى إلا عبر وجود تشريع واكتمال هيكل المؤسسات العدلية، بمعنى ضرورة تعيين أعضاء المحكمة الدستورية.
يقول الشيخ إنه يمكن استرداد الأموال المنهوبة داخلياً باستخدام قانون الثراء الحرام والمال المشبوه لسنة 1989، باعتبار أن الغرض الأساس هو استرداد أصل المال وما ترتب عليه من أموال أخرى نقدية أو عقارية وغيرها، وهو غرض اقتصادي في المقام الأول، وليس ملء السجون، فضلاً عن أن استرداد الأموال المنهوبة خارجياً، لن يتأتى من دون وجود تشريع واتفاقيات دولية بجانب الضغوط السياسية، بخاصة أن الكتلة الكبيرة من ذلك المال موجودة بتركيا وماليزيا ومصر، بجانب بعض الدول الأوروبية.
ويتعلق المحور الثاني للتفكيك وفق الشيخ، بسيطرة النظام البائد على مفاصل الدولة والخدمة المدنية، “فإذا ما أزيحت القيادات من المؤسسات فستفقد القواعد فاعليتها، بخاصة أن النظام البائد في سنواته العشر الأخيرة تسيدته طبقة الانتهازيين”، مشيراً إلى أن الحركة الإسلامية لم تكن هي الحاكمة فعلاً في سنواتها الأخيرة، بل كان تنظيماً خاصاً يديره أفراد متناحرون ومنقسمون لثلاث مجموعات، إحداها تحت سيطرة الرئيس المخلوع والثانية بقيادة علي عثمان، والثالثة يقودها نافع علي نافع، مما تسبب في صراع أدى لتساقط القواعد وضعف التنظيم لدرجة التلاشي.
الرغبة والإرادة المشتركة
يشدد عضو المحامين الديمقراطيين على أهمية توفر الإرادة لأطراف الاتفاق الإطاري في القوى السياسية والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والرغبة الجماعية الحقيقية في تفكيك بنية النظام البائد، قائلاً “لن يجدي أي تشريع أو جهد في هذا الصدد من دون ذلك، حتى لا يتكرر التشاكس ذاته الذي ساد المرحلة السابقة”.
من المنتظر أن تصبح توصيات المؤتمر الختامية جزءاً من برنامج الحكومة المدنية المقبلة، بتضمين ما هو قانوني في نصوص الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية بما يجعلها ملزمة للجهاز التنفيذي ويضع لجنة التفكيك في إطار المهام الحكومية في اجتثاث الفساد وإزالة كل أوجه التمكين.
كانت لجنة تفكيك نظام البشير السابقة قد واجهت حملات إعلامية كثيفة وممنهجة، بخاصة بعد قراراتها تجميد وحجز أرصدة مئات الحسابات المصرفية لأشخاص من رموز النظام السابق، كما واجهت تحديات وعقبات عديدة أهمها التلكؤ في تنفيذ قراراتها بواسطة الأجهزة العدلية والأمنية، وتصاعدت الحملة إلى حد المطالبة بحلها.
وبالفعل تم حل اللجنة عقب انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، فيما أصدرت دائرة الطعون بالمحكمة العليا قرارات ببطلان معظم قراراتها وإرجاع آلاف المفصولين إلى مؤسساتهم ووزاراتهم، بينهم قيادات ومستشارون وقضاة ودبلوماسيون، وكذلك فك تجميد الحسابات وإرجاع الأصول والأموال المستردة، وبدأت حملة ملاحقات لأعضاء اللجنة وفتح بلاغات ضدهم وحبسهم على ذمتها.
جمال عبد القادر البدوي
إندبندنت عربية