“الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة”.. ابن رشد..!
أم سودانية نمطية هاتفت القائمين على أمر برنامج تلفزيوني ديني – في أواخر سنوات حكم الإنقاذ – تستفتيهم في أكثر من مسألة، وكان الشيخ مقدم البرنامج وضيفه العالم الفقيه يستمعان إلى السائلة بالحياد والتركيز اللازمين، وكان السرد يمضي في أمان الله إلى أن عرجت السيدة على الحكاية “موضوع السؤال” والتي تقول باختصار إن ابنة السائلة قد وضعت مولوداً في بيت أهلها “أسرة رقيقة الحال يعجز وليها عن توفير قُوت يومها أحياناً”، بينما يمتنع زوجها “المكلف المستطيع” عن الإنفاق عليها وعلى رضيعها. الأمر الذي أجبر الأم المرضع على اتخاذ قرار إرسال الرضيعة إلى والدها، لكنها رأت قبل ذلك أن تستوثق من رأي الشرع في ما هي مقدمة عليه..!
وهي كما ترى مسألة شرعية تستوجب الحد اللازم من الحياد الفقهي، بعيداً عن رأي المفتي في رقة قلب الأم من قسوته، وبعيداً عن سخطه على إهمالها مراعاة أعراف المجتمع السوداني من عدمه، فما الذي حدث؟. أصيب الفقيهان – في التو واللحظة – بمتلازمة فتاوى النساء “وهي حزمة متغيرات لا شعورية تصيب معظم الشيوخ والفقهاء عند الحديث عن موقف الشرع من شؤون وقضايا النساء”. وبعد أن تمعر وجه الشيخ مقدم البرنامج، وبعد أن أبدى امتعاضه الشديد من موقف النساء اللاتي يذهب أبناؤهن ضحايا لردود أفعالهن تجاه الخلافات مع الأزواج، أمَّن فضيلة الشيخ الضيف على ذات المعنى، دونما إشارة من قريبٍ أو بعيدٍ إلى موقف الزوج الممتنع عن الإنفاق، ودونما أي تمعر أو امتعاض بشأنه..!
بينما فضلاً عن الرخص التي وردت في حكم إرضاع الأم لمولودها والتي يعرفها الشيخان جيداً، لماذا سكت كلاهما عن الإجماع بشأن وجوب نفقة المرضع؟. لماذا لم يقولا إنّ “على المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف” حتى وإن كانت الوالدة مطلقة فما بالك بها زوجة، وأن الله سبحانه وتعالى كما أبدل المطلقات بالوالدات في قوله (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) لاستعطافهن نحو الأولاد، فقد أبدل الوالد بالمولود له في قوله (وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) لتذكير الأب بأن المولود يتبعه وينتسب إليه وبالتالي تجب عليه نفقة إرضاعه؟. أين حديثهما عن ما يحق للسائلة قبل تذكيرها ما يجب عليها، وهي التي قصدتهما للفتوى..؟
الشاهد من هذا – ومن غيره – أن كثيراً من الفقهاء والعلماء والشيوخ في بلادنا يخلطون بين “حكم الشرع” و”أحكام المجتمع” عندما يتعلق الأمر ببعض فتاوى النساء. والشاهد أيضاً أن بضع قطرات من آراء الشيخ الخاصة وانطباعاته الشخصية قد تبلل نص الفتوى، فينزلق الحكم الشرعي على أعتاب العرف الاجتماعي، بينما المؤكد جداً هو أن هناك فرقاً..!