مع بدء الأيام الأولى لـ2023، فوجئ السودانيون بتنفيذ زيادات هائلة على رسوم الخدمات والمعاملات الحكومية، ليعتبروا العام الجديد كابوساً أطل عليهم من قبل أن تتم إجازة الموازنة العامة الجديدة بواسطة مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية.
لاقى التطبيق الفوري للزيادات استنكاراً ورفضاً شعبياً واسعاً، وأثار جدلاً كبيراً وسط الاقتصاديين والمراقبين حول مدى مشروعية تلك الزيادات قبل إجازة الموازنة، وتسبب في سخط تجاه سياسات الحكومة بالضغط المستمر عليهم، كما انتشرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الانتفاض الجماهيري ضد تلك الزيادات ومناهضتها باللجوء إلى القضاء لإسقاطها كونها استبقت الإجازة النهائية للموازنة الجديدة بواسطة مجلس الوزراء أو المجلس التشريعي.
شملت الزيادات استخراج الأوراق الثبوتية، فتضاعفت على أثرها رسوم استخراج جواز السفر إلى 51250 جنيهاً ما يعادل (90 دولاراً أميركياً) و26250 جنيهاً (46 دولاراً) لوثيقة الأطفال وبلغت كلفة الجواز التجاري 253050 جنيهاً (444 دولاراً)، فضلاً عن زيادات في رسوم معاملات دخول وإقامة الأجانب المختلفة، كما ارتفعت بشكل كبير رسوم ترخيص السيارات وقفزت رسوم ترخيص مركبة صالون ملاكي إلى نحو 69000 جنيه (121 دولاراً).
كما صعدت رسوم الدخول إلى المطارات بنسبة 100 في المئة، حيث تضاعف رسم الدخول إلى مطار الخرطوم إلى 1000 جنيه (1.7 دولار) لانتظار ساعة واحدة، مع زيادة غرامات تسوية المخالفات بالمطارات من 3000 جنيه إلى نحو 30000 جنيه (53 دولاراً).
نفي وتبرير
قال مصدر في وزارة المالية إن زيادة رسوم الخدمات الحكومية حقيقة تم تنفيذها اعتباراً من الأول من يناير (كانون الثاني) من هذا العام وجاءت بحسب الموجهات التي بعثت بها الوزارة إلى المؤسسات المعنية وأجيزت بالفعل من قبل اللجان الفنية.
وفيما أكد المصدر أن الموازنة لم تجز حتى الآن بواسطة أي من مجلس الوزراء أو السلطة التشريعية، غير أن كل ذلك يعتمد ويتم وفقاً للأرقام المجازة في المرحلة الأولى على مستوى اللجان الفنية وقبل أن ترفع إلى المستويات الأعلى التي غالباً ما تكون مراحل إجرائية لا غير، مشيراً إلى زيادات كبيرة في إيرادات موازنة هذا العام عن سابقتها في 2022.
وعلى رغم التطبيق العملي الفوري للزيادات، نفى وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم علاقة وزارته بتلك الزيادات الجديدة، مشيراً إلى أنها لا تملك سلطة فرض ضرائب أو رسوم جديدة، لأن ذلك من اختصاص السلطة التشريعية.
وقال إبراهيم عبر تغريدة على حسابه في “تويتر”، “الوحدات الحكومية هي التي تقترح تعديل رسومها وفق تقديرها لكلفتها الحقيقية ويقتصر دور الوزارة على الموافقة عليها”، مبيناً أن لا علاقة للوزارة بالجبايات التي تتم في المحليات والولايات وطرقها، أو بالرسوم الدراسية التي تفرضها الجامعات ولا تستشار الوزارة في تقديرها.
انتقاص الحقوق
يتأسف المواطن علاء عبدالرحيم على الزيادات الخرافية التي تمت في كلفة الخدمات واعتبرها بئس الهدية المعكوسة التي تفوق احتمال المواطنين مع مطلع العام الجديد وعيد الاستقلال من حكومة لا يبدو أنها تضع أي اعتبار للمواطن أو تعير قضاياه أي اهتمام.
وقال “أصبحنا شعباً مسحوقاً بلا رحمة، بينما تنسى أو تتناسى هذه الحكومة أن السواد الأعظم من الناس ضربهم الفقر، ولم يكن متوقعاً أن تأتي بمشروع إفقار جديد يعبر عن العجز والفشل في استنباط أو استحداث موارد حقيقية، بدلاً من أن تختار الحلول السهلة بأن ينفق عليها الشعب الفقير”.
في السياق ذاته أعربت المفوضية القومية لحقوق الإنسان عن بالغ قلقها وأسفها للزيادات الأخيرة التي طرأت على بعض رسوم الخدمات في موازنة 2023 وعدم مراعاتها الحال الاقتصادية الراهنة والأوضاع المعيشية في البلاد.
ودعت المفوضية في تصريح صحافي الحكومة إلى عدم تحميل المواطنين سد العجز في الموازنة، إذ إنهم مثقلون في الأساس ويعانون الأزمة الاقتصادية التي أثرت بشكل بالغ في تمتعهم بجميع حقوقهم، بما في ذلك الغذاء الكافي والتمتع بالصحة، الأمر الذي من شأنه زيادة الاحتقان وارتفاع معدلات الفقر، لافتة إلى أن هذه الزيادات تتم بنسبة أكبر في بعض الولايات.
وطالبت المفوضية السلطات بإلغاء هذه الزيادات التي ستؤثر في تمتع الأشخاص بطائفة كبيرة من الحقوق وعبرت عن انزعاجها البالغ من الزيادات في الرسوم الدراسية، مؤكدة أن هذا الإجراء يتعارض مع الحق في التعليم.
من دون قوانين
على الصعيد ذاته اتهم المحلل الاقتصادي محمد الناير الدولة بالتصرف في بعض السياسات من دون وجود قوانين حاكمة تستند إليها في هذا الجانب، فالموازنة العامة الجديدة لم تجز حتى اللحظة ولم تعرض على السلطة التشريعية أو التنفيذية الموقتة، وفي الوقت ذاته تتم زيادات في الرسوم وضرائب في الخدمات تطبق بصورة فورية، على رغم تأثيرها السلبي الكبير في حياة المواطنين، مطالباً بتغيير العقلية الجبائية التي تعتمد عليها الحكومة.
واعتبر الناير أن الدولة ما زالت تنظر إلى القضية الاقتصادية من منظور ضيق فبدلاً من أن تنظر إلى الناس وظروفهم الاقتصادية والمعيشية القاهرة التي يعانونها كما هو مفترض، نجدها تسير في الخط المعاكس تماماً لذلك بإضافة مزيد من الأعباء على كاهل الناس وكأنها تريد أن تعالج كل أمورها وأوضاعها ومشكلاتها المالية على حساب المواطن ومن جيبه مباشرة بمزيد من الضغط عليه بصورة كبيرة.
وأضاف “ألا يكفي أن المواطنين تحملوا كل آثار تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي التي نفذت بنسبة 95 في المئة من دون وجود لأي معالجات تخفف تلك الآثار العميقة لها على حياتهم، وفي ظل غياب أي قروض أو منح أو دعم خارجي لتقليل الآثار العميقة لتلك السياسات على حياتهم”.
أين الدولة؟
تساءل الناير عن دور الدولة، خصوصاً بعد انتهاء كل أنواع الدعم الذي كانت تقدمه، وباتت كل السلع والخدمات تقدر وفق كلفتها الفعلية، مما يدحض أي مبررات بمزيد من الضغوط على الناس بمثل هذه الزيادات الكبيرة في الرسوم، سواء في ترخيص العربات أو استخراج الوثائق الثبوتية.
وحذر من أن الدولة تدفع بهذه الطريقة نحو خلق تباين كبير وسط المجتمع وتعميقه، لأن معظم المواطنين باتوا غير قادرين على تحمل هذه الأعباء، مما يؤدي مستقبلاً إلى أن طبقة القادرين فقط هي من تستطيع الحصول على خدمتي التعليم والصحة وغيرهما.
وقال “لا يعقل أن يحدث ذلك في بلد يتراوح فيه معدل الفقر بين 60 و80 في المئة من السكان ويبلغ فيه معدل البطالة نسبة 40 في المئة، وأن تتبع الدولة سياسات تتعارض بصورة كبيرة مع الوضع الاقتصادي الذي يعيشه الناس”.
وأردف “يبدو أن الدولة تخلت عن توظيف قدرات وإمكانات البلاد واستثمار مواردها الطبيعية لمصلحة الشعب، كما تفعل كل حكومات العالم في تعاملها مع الاقتصاد وفق البدائل التي تحقق مصلحة الشعب والبلاد معاً”.
عجز حكومي
في المنحى ذاته اعتبر رجل الأعمال أبو طالب الأمين أن الزيادات تؤكد عجز الحكومة عن وضع موازنة تلبي حاجات الشعب، فبعد رفع الدعم عن القمح والوقود والكهرباء وغاز الطهي والدواء، لم يعد هناك مبرر لعودة أنواع أخرى من الزيادات في كلفة الخدمات لأنها ستفاقم مشكلات الفقر والبطالة وتزيد حدة الجوع والتفكك الاجتماعي.
وتوقع الأمين أن تنشط هذه الزيادات الأساليب الملتوية والتلاعب بما قد يفتح أبواباً أخرى للفساد بمزيد من منافذ التهرب والتحايل عليها، مما يهدد بنتائج عكسية لتلك القرارات.
وانتقد عدم وجود خطة يتم من خلالها تنفيذ كل اشتراطات صندوق النقد والبنك الدوليين، مشيراً إلى أن الزيادات الكبيرة التي أجيزت لم تكن معلنة وافتقرت إلى الشفافية اللازمة في القرار الاقتصادي، بل اعتمدت على سياسة فرض الأمر الواقع غير الحكيمة.
على صعيد متصل طالب الناشط الاجتماعي والسياسي كمال زين العابدين الدولة بأن تعلن برنامجاً للتقشف تبدأ من خلاله بترشيد الصرف والنفقات الحكومية غير الضرورية، وعلى رأسها بنود السفر الخارجي والمخصصات والنثريات التي تشكل عبئاً على الدولة، خصوصاً سفر الدستوريين واستخدام الطائرات الخاصة في جولات إقليمية طويلة.
ترشيد الصرف أولاً
وانتقد زين العابدين مستوى الصرف غير الضروري على المخصصات واستخدام الدستوريين لأكثر من عربة فاخرة ليست مخصصة أصلاً للعمل داخل المدن بل للسفر الطويل، بينما تعجز الدولة عن الصرف على وظائفها ومهماتها واختصاصاتها الأساسية.
وأضاف “يجب أن يشمل ترشيد الصرف أيضاً المؤتمرات وورش العمل التي لا تنتج سوى أوراق عمل وتوصيات مكررة تذهب أخيراً إلى الأدراج من دون جدوى لعدم توافر المال والإمكانات لتنفيذها، وذلك بدلاً من السياسات الجبائية التي تعمق الكساد وتزيد الركود التضخمي بكل ما له من انعكاسات كارثية على الوضع الحالي.
ودعا إلى ضرورة مراجعة منهج وأوجه الصرف الحكومي على نحو عاجل وتفعيل دور المراجعة الداخلية والمراجع العام بغية معالجة ضعف الانضباط باللوائح والقوانين المنظمة للصرف وأولوياته، مشيراً إلى كمية العقارات المستأجرة للحكومة وأرتال العربات والمأكولات الجاهزة وبدلات اللبس والسكن والخدمات التي صرفتها يمكن أن تنقل الخدمات إلى وضع أفضل مما هي عليه الآن.
ويشهد السودان تدنياً كبيراً في أوضاعه الاقتصادية والمعيشية منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي فاقم الأزمة السياسية وتسبب في تجميد المؤسسات الدولية مليارات الدولارات كان ينتظر أن تؤدي إلى إنعاش الاقتصاد من خلال توظيفها في القطاعات الإنتاجية وزيادة الصادرات الزراعية والحيوانية على وجه الخصوص بعد طول إهمال وتعثر.
إندبندنت