“الدين يُسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء”.. أحمد شوقي..!
تداولت الصحف قبل سنواتٍ، حكاية سفير متقاعد كان يتردّد على أحد البنوك – وهو يرتدي حلّة أنيقة غالية الثمن – لسرقة أجهزة الموبايل الخاصّة بالمُوظّفين في أثناء انشغالهم بخدمته، وعندما أُلقي القبض عليه، اعترف قائلاً من بين دموعه “إنه يسرق لتوفير ثمن الدواء”..!
ولو كنا في أي بلد آخر غير السودان لكان احتمال تصديق رواية “اللص الأنيق” هو صفر بالمائة، ولكن الفجوة الهائلة بين مرتب الرجل ومعاش تقاعده تشد من أزر تلك الرواية، وإن كانت لا تُشرعن وقوعها، فما بالك بمَن هُم دُون ذلك..!
في العالم الأول، يحتج المُوظّف ويثور على خُطط الحكومات لرفع سن التقاعد، لأنّ التقاعد عنده راحة واستمتاع بشيخوخة هادئة، بمخُصّصات معقولة وراتب تقاعدي لا شبهة ظلم أو تعسف في قيمته التي تحفظ النسبة والتناسب بين مُتطلبات الوظيفة واحتياجات التقاعُد وبين طبيعة المهنة ومقدار مقابلها التقاعدي..!
في فرنسا مثلاً، تعطّلت حركة المرور وتوقّفت الرحلات الجوية في بعض المدن قبل سنوات بسبب إضرابات عامة، احتجاجاً على خُطط الرئيس ساركوزي لرفع سن التقاعد من الستين إلى الثانية والستين بحلول العام 2018م..!
وبينما كانت حكومتهم تضرب الأمثال بدول غير بعيدة وصلت فيها سن التقاعد لأكثر من ذلك، وتحتج بأنّها سوف تُوفِّر على خزينة الدولة مبالغ طائلة، كان المُحتجون يتقدمون باقتراحات بديلة تتضمن مزيداً من الضرائب على العلاوات الكبيرة والرواتب المُرتفعة لتمويل صناديق معاشات التقاعد..!
ثم حدث ذلك في السودان فتنزَّل القرار على الموظف المسكين الخائف من بعبع المعاش برداً وسلاماً، بسبب طبيعة مرحلة التقاعُد التي تعني انقطاعاً مُفاجئاً لمصدر دخل ثابت ومتصالح – وإن على مضض وبعد لأيٍ – مع أبسط ضرورات المعيشة..!
أوليس هذا هو حال السفير قبل الخفير في هذا السودان مع مرحلة ما بعد التقاعد؟. الهم والنكد بعد الخروج من نار الميري إلى رمضاء المهن البديلة، المُرهقة، شحيحة المردود؟. فلئن كان مرتب الموظف لا يسمن، فإنّ راتبه التقاعدي لا يغني من جوع..!
الإحالة للمعاش في السودان تعني ببساطة أن يتحوّل أمن الموظف خوفاً، وشبعه جوعاً، واكتفاؤه حاجة، وتعفُّفه مذلة بالوقوف على أعتاب السؤال عن حق ما يزال في كم وكيف استلامه قولان..!
الراتب التقاعدي في السودان “استعباط” حكومي، واستهبال رسمي، ونكتة بايخة، أما مرتب الموظف قبل التقاعد فهو مزيجٌ من كل ذلك، فَضلاً عن الفجور في الظلم وقساوة التقدير. إضراب المعلمين احتجاجاً على عدم رفع الحد الأدنى للأجور وعدم زيادة الإنفاق على التعليم حقٌ، واستجابة الدولة واجب، لا يختلف على وجوبه عاقلان..!
صحيفة الصيحة