محمد محمدخير يكتب: ابن الرومي شــاعر المآكل والحيرة.!

هو أول شـاعر تبسط في وصف الحياة والناس، وأول من كتب شعراً بالتفصيل عن الفاكهة، فوصف العنب والمشمش والرمان، وأول شاعر تناول المآكل بالتفصيل، فوصف البيض والسمك والدجاج والقطائف والزلابية، وأول شاعر تغلغل في طبقات المجتمع وأصناف الناس، فصـور الأحدب، والأصلع، والثقيل، والمتكبر، وصاحب الوجه الطويل، واللحية الكثة، والأنف الضخم، والخبـاز، وقالي الزلابية، والأغنياء المزيفين، ومحدثي النعمة، والجهلاء، وأول شاعر أنطق الأزهار والأسمار، وجسّمها وعبر عن كل أشكال الطبيعة، وكل حركة تمور فيها!

لكن حياة ابن الرومي كانت عاصفة وموارة، فقد شهد سلسلة من النكبات والمصائب التي أرهقت قواه، وهدَّت كيانه، وأغرقته في التشاؤم والتطير، حتى كادت تصرفاته تبلغه مبلغ الجنون، فقد خلال سنة واحدة أمه وأخاه وزوجته وثلاثة من أبنائه ثم زوجة ثانية وابنين اثنين، كان يحيط به عالم مؤسف، لكنه كان يطمح وسط هذه الظروف المعقدة لتحقيق أحلام كبيرة لم تتحقق بل صاحبتها نكبات غير متوقعة، كانت من أسباب اضطرابه النفسي والجسماني، فأصبح غريب الآراء والتصرفات والأطوار، فكان مثلاً لا يخرج من بيته لأيام لمجرد أنه رأى رجلاً قبيحاً، وكان يقضي نهاره في الشرب ثم يستغفر ويصلي ويبكي، تجاذب غير متكافئ، ترك انعكاساً سيئاً في شخصيته، فهو مادي متطرف، ومتردد ومتهافت القوى، وقليل حيلة ومرتبك وملتبس، ولا يعرف ماذا يريد.

أذاقتني الأسفار ما كره الغنى

إليّ وأغراني بر فضل المطالب

فأصبحت في الإثراء أزهد زاهد

وإن كنت في الإثراء أرغب راغب!

كان فقير الحال، وأكثر المستدينين قال عنه الدكتور طه حسين (كان سيئ الحظ في حياته)، لم يكن محبباً إلى الناس، وإنما كان مبغضاً إليهم، ولم يكن أمره مقصوراً على سوء حظه، بل ربما كان سوء حظه من سوء طبيعته، فقد كان ) حاد المزاج، مضطرباً، معتل الطبع، ضيق الأعصاب، حاد الحس يكاد يبلغ من ذلك الإسراف).

هذه المتناقضات أعطته صورة رديئة للحياة من ناحية، ومحببة من الناحية الأخرى، فقد كان اضطراب مزاجه يبغض إليه الناس، ويسيء رأيه فيهم، ولكن قوة حسه ورقة طبعه كانت تحبب إليه كل اللذات، فجمع بين التناقض بمقدار واحد اللذة والإسراف فيها والتهالك عليها، وبغض الناس والتطير منهم، والإقبال على الحياة بروح متشائمة.. كان لا يسافر ولا يغادر مكانه لأن مظاهر الطبيعة تخيفه، فلا يأمن البر ولا البحر ولا يطمئن لصيف أو شتاء، موسوس متطير، يخشى الأسفار، ولا يأمن جانب البشر، وفي ذات الحين يحب الحياة واللذائذ والسمك والدجاج وأنواع الفاكهة كافة.. وكل عام كان له مأتم في عزيز.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version