(١) شكّلت مفردة الحرية إحدى أضلاع المثلث الذي مثّل الشعار الأبرز للحراك الشعبي الذي في أواخر العام ٢٠١٨م ( حرية، سلام وعدالة ).
وربما يتفق معي القارئ الكريم أنه كان من الأوفق أن يتم ترتيب مفردات الشعار ترتيباً عكسياً فنبدأ بالعدالة ثم السلام ثم الحرية، فالعدالة هي المدخل الحقيقي للسلام، والحرية بلا عدالة ولا سلام لا قيمة لها.
ولعله كذلك من المهم التنويه لأن هذا المقال لا يستهدف البحث النظري أو الفلسفي في قضية الحرية، فهو ليس إلاّ محاولة لتتبع الكيفية التي مارسنا بها، كسودانيين، حريتنا، وتجاربنا الديمقراطية منذ الخطوات التمهيدية للاستقلال وإلى يومنا هذا، في محاولة لاكتشاف العلل التي جعلت من ثمرة الحرية والديمقراطية لا تينع في أرضنا.
(٢)
ودون الخوض في تاريخ ما قبل الفترة الاستعمارية، يمكننا القول بأن السودانيين نالوا حريتهم الكاملة عندما رفع قادتهم علم الإستقلال على سارية قصر الحاكم العام في الخرطوم (القصر الجمهوري) في اليوم الأول من الشهر الأول من العام الميلادي 1956؛ وكانت هذه الخطوة الرمزية نتيجة عمل سياسي متصل لمدة عامين بدأ بانتخاب أول جمعية تشريعية في أواخر العام 1953 وانتهى بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955؛ وقد أرسى ذلك البرلمان وحكومته التي تشكلت في مطلع العام 1954 وترأسها السيد إسماعيل الأزهري، أسس نظام تداول السلطة وأنجز نظام سودنة الوظائف وخطوات جلاء الاستعمار. وقد بدا إعلان الاستقلال نفسه خطوة مفاجئة للكثيرين، إذ أن الحزب الذي فاز بالأغلبية المطلقة في الانتخابات التي أنتجت برلمان الإستقلال هو الحزب الوطني الإتحادي والذي تشكل إثر نجاح الجهود المصرية في توحيد الأحزاب الاتحادية (حزب الأشقاء وحزب الاتحاديين الأحرار وحزب وحدة وادي النيل)، وهي جميعها أحزاب كانت ترفع شعار الإتحاد مع مصر وليس الاستقلال الكامل من دولتي الحكم الثنائي؛ لكن قيادة الحزب (إسماعيل الأزهري) غيرت موقفها واتفقت مع حزب المعارضة الرئيسي (حزب الأمة) – والذي كان يتبنى الاستقلال أصلاً – على توحيد الموقف من قضية الاستقلال!
ذهب المستعمر برجاله وترك في السودان طائفتين رئيسيتين هما طائفة الأنصار وطائفة الختمية، وترك إدارة أهلية منظمة ولديها قدرات وسلطات ويمتد نفوذها القبلي ليشمل كل أنحاء السودان، وترك نخبة متعلمة محدودة العدد أسهمت بقدر وافر في قيادة النضال السلمي لنيل الاستقلال؛ وقد يكون من العسير لأي متتبع لمسيرة الديمقراطية وممارسة الحرية في السودان وما يتصل بهما من أشكال التعبير عن الإرادة الحرة للمواطنين، أن يقفز فوق ذلك الأساس الذي تركه الاستعمار خلفه، قصداً أو بغير قصد، إذ سرعان ما توزع ولاءُ الطبقة المحدودة المتعلمة بين الطائفتين طمعاً في الاستحواذ على السلطة، فأصبح الاتحاديون تحت رعاية طائفة الختمية وأضحى حزب الأمة تحت رعاية طائفة الأنصار؛ وقد جاء تشكيل البرلمان الذي أفرزته أول انتخابات في عهد الاستقلال (1958) أكثر تعبيراً عن النفوذ الطائفي والقبلي في السودان، إذ سرعان ما انقسم المثقفون بين الطائفتين فهيمنت طائفة الأنصار على حزب الأمة وهيمنت طائفة الختمية على الأحزاب الاتحادية، وسيطر الولاء القبلي أو الجهوي المرتبط هو الآخر بالطائفتين على أغلب ما تبقى من مقاعد ذلك البرلمان.
(٣)
ثلاث قضايا رئيسية شكلت أولويات حكومات ما بعد الاستقلال، هي قضية الدستور، وقضية الجنوب، وقضية التنمية؛ ولم تنجح البرلمانات التعددية بما في ذلك البرلمان الأول وتلك التي أعقبته في 1965 و1985 والحكومات الائتلافية التي تشكلت في ضوء نتائجها، من إحراز تقدم ذي بال على صعيد أي من تلك القضايا، فالتركيبة السياسية التي نشأت كانت في غالبها تعبّر عن إرادة زعماء الطائفتين وعن الولاءات القبلية والجهوية، وكان أوضح دليل على ذلك هو ظاهرة (تصدير النواب) إذ أن زعيم الطائفة هو مَن يُحدد من ينوب عن سكان الدائرة التي تكون محل نفوذ تقليدي له، وقد يكون مرشح الإمام أو الزعيم لا علاقة له بالدائرة وساكنيها ولم يسبق له أن زارهم.
وعلى ضوء مواقف القوى السياسية من تلك القضايا الثلاث، وهي في إطارها المعمم، تبلور الصراع السياسي في السودان إلى يومنا هذا، وهو صراع لم يقف عند حد التصدعات السياسية داخل المنظومات الطائفية ولا عند حد التنافس بينها، وإنما اتسعت دائرته عندما دخلتها التيارات الأيدلوجية ممثلة في اليسار بقيادة الحزب الشيوعي واليمين بقيادة جبهة الميثاق الإسلامي، بل أضحى اليسار واليمين فيما بعد هما قطبي الصراع بدلاً من الطائفتين، وتسببا في أطول فترتي حكم من العهد الوطني، وحاول كل منهما – على طريقته – ابتداع عدد من السياسات التي كان يرى أن من شأنها نشر التعليم والوعي العام وتقليل أو الغاء التأثير الطائفي والقبلي على عامة الناس!!
(٤)
ويستطيع المرء القول، في ضوء ما تقدم، أن تجربة الديمقراطية في السودان، بكل مشمولاتها من حرية تكوين الأحزاب السياسية وحرية الإختيار والإنتخاب وحرية التعبير والإعلام، تمّ استنباتها في تربة لا تتلاءم وجيناتها البيولوجية، وبالتالي لم تُعمِّر شجرتها ولم تُثمر، وقد عمَّق من الأثر السالب لهذا الأمر أن الآباء المؤسسين لسودان ما بعد الإستعمار، انشغلوا بشكل النظام الديمقراطي الذي يريدون تطبيقه لا بجوهره، وكانت المقارنة عندهم تدور بين النظامين البريطاني (نظام وستمنستر) والأمريكي، ناسين أن تلك الأنظمة توصلت إليها مجتمعاتها بالتراضي بعد أن خاضت حروباً وتجارب متعددة في تداول السلطة، وأنه لا يصلح قص تلك الأنظمة الديمقراطية ولصقها بغرض تطبيقها في مجتمعات لم تتهيأ لها؛ ذلك أن الجملة المفتاحية في قضية الحرية هي (حرية الإرادة) في الاختبار بين البرامج السياسية المتنافسة، وهو أمر لم يتوفر في بيئة تتفشى فيها الأمية والجهل، وتسيطر على عقول الناس فيها الولاءاتُ الطائفية والقبلية والجهوية.
ولهذا كان من النادر في تجاربنا الديمقراطية الأولى أن يأتي البرلمان تعبيراً عن الارادة الحرة للمواطنين ووفقاً لبرامج سياسية واجتماعية واضحة تنافست في الانتخابات، وحتى بعدما أمكن لقوىً غير طائفية من اليسار واليمين دخول البرلمان كانت برامجها التي خاطبت بها الناخبين أو عبَّرت عنها في صحفها، هلامية وغير واضحة المعالم؛ ومع هذا فقد تعرضت هذه (القوى الحديثة) إلى أشكال من الكيد السياسي والإقصاء من قِبل الطائفية جعلها خصماً على التجربة الديمقراطية بدلاً من المساهمة في تطويرها، فلجأت للإستعانة بالجيش للاستحواذ على السلطة كما فعل الشيوعيون والقوميون في (مايو 1969) وفعل الإسلاميون في (يونيو 1989) في سلوك مشابه لما كان فعله الصراع الطائفي في (نوفمبر 1958)!
(٥)
لو أن الآباء المؤسسين للاستقلال، والقوى الحديثة التي نشأت في كنف مؤتمر الخريجين، تواضعوا في حينه على انتقال متدرج نحو الديمقراطية وذلك بتهيئة التربة السودانية لزراعة شجرة الحرية والديمقراطية من خلال نشر التعليم والوعي السياسي وتحرير الإرادة من الولاء الأعمى للطائفة والقبيلة، لربما جاز القول أن تاريخ السودان جرت وقائعه على نحو مختلف، لكن قدر السودانيين المكتوب جعلهم يقضون أكثر من نصف قرن من عمر بلادهم المستقل تحت حكم أنظمة شمولية وصلت إلى السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري، وإن تفاوتت وطأة تلك الأنظمة على الحريات العامة باختلاف الأزمنة التي وصلت فيها للسلطة والتحسينات التي أدخلتها على نفسها، وصلة ذلك بتطورات الأوضاع الداخلية وبالتطورات على الصعيدين الاقليمي والدولي؛ ولعله حين شارف حكم الانقاذ على بلوغ الثلاثين دون تغيير جوهري على الحريات العامة، ودون أن ينجح النظام في تجديد نفسه على مستوى القيادة، ودون حلول مستدامة للقضايا التي لازمت مسيرة السودان المستقل (الدستور الدائم والجنوب والتنمية المتوازنة)، أمكن لخصومه تحريك قطاعات واسعة من الشباب الذين خروجوا للشارع ينشدون أفقاً جديداً ويرفعون شعارات الحرية والسلام والعدالة، متطلعين لوطن يسعهم جميعاً ويتيح لهم قدراً أوسع من حرية التعبير عن أشواقهم وقدرة أكبر للإسهام في إعادة إرساء قواعد بنائه.
ولئن نجح ذلك الحراك الشعبي المدعوم من قوى خارجية في إسقاط النظام، بعد أن انحاز له الجيش، إلاّ أن تحدي إرساء نظام ديمقراطي يستفيد من تجاربنا السابقة ما يزال قائما، فبعد مضي أربع سنوات على سقوط حكم الإنقاذ تبدو خطوات تجذير ممارسة الحرية والديمقراطية في المجتمع السوداني في أولوية متأخرة، فلم نشهد أحزابنا تهرع لعقد مؤتمراتها العامة وتقدم نموذجاً لممارسة الديمقراطية داخلها، ولم ينجز الائتلاف الذي حكم لسنتين وها هو يحاول العودة للحكم مرة أخرى، من سن أي تشريعات جديدة لتنظيم ممارسة العمل النقابي أو لتنظيم ممارسة العمل الإعلامي والصحفي، بل كرّست تلك القوى السياسية جهودها لممارسة العزل والإقصاء حتى لحلفائها الأقربين ممن شاركوها “الثورة”.
وتراجعت أوضاع الناس الإقتصادية والمعيشية والأمنية لدرك سحيق، وأخشى ما يخشاه المرء أن ينسى من تصدروا المشهد بعد أبريل 2019 أنهم انما أتوا لترسيخ وتعزيز القيم التي تتطلع إليها وجموع الشعب، ممثلة في قيم الكرامة والعدالة والسلام والحرية. هذا إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل.
العبيد أحمد مروح