منى أبو زيد تكتب : نحن في السودان

“الحقيقة النقية البسيطة نادراً ما تكون نقية، ويستحيل أن تكون بسيطة”.. أوسكار وايلد..!

(1)

جُل مصائب هذا السودان مَرَدُّهَا إلى عيبٍ أصيل في تكوين الشخصية السودانية، يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي “جداً”.. نحن نَكره جداً ونُحب جداً.. نَظلم جداً ونتَظلَّم جداً.. نَقمع جداً ونثُور جداً.. نهتَم جداً ونُهمل جداً.. وما بين طرفي النقيض أمورٌ مشتبهات، وحقائقَ مختبئات، ومفاهيم مُتدرِّجة الألوان، وأرضيات ليست سوداء وليست بيضاء، تصلح لتأسيس المشتركات، بلا إفراطٍ في رفض، أو تفريطٍ بقَبول.. لكننا مع ذلك نأبى مبدأ التكامل، وننفر من خيارات التجريب، ونلوذ بالشك، وننتهج العناد، جداً، جداً..!

(2)

لن تنصلح حال العاملين بالمؤسسات الحكومية في هذا البلد – ولن تتقدم الخدمة الوطنية قيد أنملة – إذا لم يتخلّصوا من إدمانهم إقحام لمصطلحات على غرار “الواقع.. المأمول.. الرؤى.. الحلول.. الآفاق.. المستقبل” ..إلخ.. في عناوين المؤتمرات والملتقيات والورش، فضلاً عن جملة “تحت شعار”، العتيقة، الكئيبة، التي تُكتب بخطوطٍ عريضة على تلك اللافتات أو “الدلاقين”. ولا تتوقع أبداً أن ينصلح حال المسؤولين في بيئة عمل يجتهد حارقو البخور في أروقتها على تذييل كل لافتةٍ بجملة “رعايةٍ كريمة”..!

(3)

نحن شعبٌ متدينٌ بطبعه، والصوفية تجري في طبائعه. يرمي حموله على الله، ويلوذ بالخلوة أو يلجأ إلى المسيد، كلما أثقلت كاهله الهموم، وتكالبت عليه المِحَن. ورغم إنكار المنكرين من المتطرفين في إطلاق الأحكام وتوزيع صكوك البراءة والإدانة، ظل دور المسيد في هذا السودان عظيماً. يطعم الطعام، ويجير المستجير، ويغيث الملهوف. شعاره الإصلاح، وديدنه الصُّلح.. إن تلك المباني المترامية على امتداد هذا السودان ليست قباباً وأضرحة، وشيوخ سجادة، وحلقات ذكر – فحسب –، بل هي ملاذات آمنة لكل فئات وطبقات وأعراق هذا السودان الكبير.. لذا كانت الصوفية وستظل أقوى ممسكات الوحدة ومرافئ الحكمة في هذا البلد. وما يشهده السودان اليوم من محنٍ وإحن يحتاجهم كثيراً، بل هو في أشد الحاجة إليهم..!

(4)

أحياناً يحلو لي أن أتأمّل في ما بين سطور العناوين والحوارات الصادرة في صحف الخرطوم، وكثيراً ما أتعثَّر بمعانٍ شاردة كنت أبحث عنها، وأحياناً تُقابلني بعض الحقائق التي أعياني التأكيد على تجوالها بين تلك الإشارة وذلك التعبير، فتصافحني، وتشد على يدي، وقد تبالغ في الاحتفاء، فَتَغمزُ لي، وتبادلني ضحكةً ذات مغزى.. بعض الجمل مثل “المسامير الحادة التي تَفرِضُ الحقيقة على ذاكرتنا”، كما أفتَى “دنيس ديدرو”. وأغْلِفَة العتبات تحيل إلى مَكامن النُّصوص، ومَضامين النُّصوص تُحيل إليها.. وهكذا.. ولا بأس في استدراج القول الظاهر أحياناً إلى مناطق خفيَّة، مغايرة للمعنى المُراد إيصاله إلى الجمهور من بَذْل ونشر تلك الأقوال..!

(5)

ما أقسى معاناة “الكاتب اللا منتمي”، الذي تعتبره الحكومة معارضاً حينما ينتقدها، والذي تعتبره المعارضة حكومياً عندما ينتقدها.. فهو يدفع – على الدوام – أثمان مواقفه المبدئية، ورؤاه المتماسكة لذاته ولمختلف القضايا والمواقف السياسية من حوله.. مع تصاعد وتيرة الأحداث السياسية أخذت هذه اللعنة بُعداً جديداً على مواقع التواصل الاجتماعي التي بات يسيطر على بعض خطوط حراكها أشخاص يمارسون الإرهاب الفكري على كل من تسوّل له نفسه أن يكتب رأياً عاقلاً أو يتخذ موقفاً جريئاً في شؤون وشجون الإصلاح والتغيير في عهد الحرية والتعبير..!

صحيفة الصيحة

Exit mobile version