لماذا تطرد أميركا المهاجرين رغم حاجتها الشديدة إليهم؟

بينما رحب البعض بقرار المحكمة العليا الأميركية، الثلاثاء، باستمرار تطبيق الإجراءات التي تقيد الهجرة على الحدود الجنوبية، بما يسمح بطرد المهاجرين بسرعة، لا تزال قضية الهجرة تمثل واحدة من أكبر القضايا المثيرة للانقسام في الولايات المتحدة، في وقت يرى بعض الخبراء أن استخدام سياسة طرد المهاجرين التي بدأت مع ترمب، واستمرت مع بايدن، تضر بشدة الاقتصاد الأميركي من حيث عدم مواكبة الطلب الزائد على العمالة، فضلاً عن أن الهجرة سوف تُسهم في امتصاص التضخم، وتحفيز النمو الاقتصادي، فما الأسباب السياسية والاجتماعية التي تقيد الهجرة إلى أميركا؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تلبي حاجاتها من العمالة إذا واصلت سياستها الحالية؟

أزمة عميقة

يكشف قرار المحكمة العليا الأميركية الإبقاء على العمل بسياسة مثيرة للجدل فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب، وحافظ عليها الرئيس بايدن، بهدف الحد من تدفق آلاف المهاجرين عبر الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، عن عمق الأزمة المتعلقة بسياسات الهجرة ككل في الولايات المتحدة، وليس فقط بالمادة 42 التي تمنح الحكومة سلطة طرد المهاجرين الذين لا يحملون وثائق، وتمنعهم من طلب اللجوء على رغم إمكانية تعرضهم للاضطهاد والخطر.

وعلى رغم أن إدارة الرئيس بايدن أوضحت أنها ستلتزم بحكم المحكمة الذي يبقي على طرد المهاجرين استناداً للمادة القانونية 42 التي تعود إلى عدة عقود بهدف منع الهجرة في وقت الأوبئة الصحية، فإن البعض اعتبر أن إدارة بايدن كانت غير منزعجة من حكم المحكمة، نظراً إلى أنها عندما أوقفت تنفيذ هذه المادة في أبريل (نيسان) الماضي، فعلتها تحت ضغط من بعض المشرعين الديمقراطيين بعد عام وربع من وصول بايدن إلى البيت الأبيض، وعندما صدرت قرارات متضاربة في المحاكم حول هذه المادة، جاء قرار رفعها الذي كان مقرراً تنفيذه خلال أيام من قاض فيدرالي، قبل أن توقفه المحكمة العليا بشكل موقت وتفتح الباب لسماع وجهات نظر 19 ولاية يسيطر عليها الجمهوريون، تقول إنها تتضرر من تدفق آلاف المهاجرين إليها، ولهذا ليس من المتوقع صدور حكم نهائي من المحكمة العليا قبل عدة أشهر، وقد تمتد حتى منتصف 2023، ومع ذلك تظل القضية الأساسية مشكلة يعجز عن حلها السياسيون.

جمود سياسي

ويبدو أن السبب الحقيقي وراء الجدل المتصاعد حول الهجرة، يعود في الأصل إلى أن القضية تحوّلت من قضية انقسامية بين الجمهوريين والديمقراطيين على مدى أكثر من عقدين، إلى كونها ورقة انتخابية مهمة، عكستها طريقة تصويت الأميركيين في انتخابات 2016 و2020، وتعززها استطلاعات الرأي الأخيرة التي تلقي الضوء على سبب صعوبة موافقة الكونغرس على تغيير طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الهجرة، على رغم أن كلا الحزبين يتفقان على نطاق واسع على أن النظام الحالي لا يعمل.

وتجلى هذا الجمود السياسي مرة أخرى في الأيام الختامية لدورة الكونغرس الحالية، حيث أقرت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين بأنهم لا يستطيعون الحصول على الدعم الكافي من زملائهم للمضي قدماً في حزمة محدودة من إصلاحات الهجرة، بينما تتضاءل احتمالات تمرير أي تشريع بشأن الهجرة في مجلس النواب الجديد، مع سيطرة الجمهوريين على المجلس، وتهديد زعيم الحزب الجمهوري في مجلس النواب كيفين مكارثي، الذي يسعى إلى تعزيز دعمه بين المحافظين، ببدء إجراءات عزل ضد وزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركاس، الذي يشرف على وكالات إنفاذ قوانين الهجرة في البلاد.

ورقة انتخابية

كانت المواقف تجاه المهاجرين من أقوى المؤشرات التي تنبئ بمن صوت لمصلحة الرئيس السابق ترمب في كل انتخابات خاضها، ففي الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لعام 2016، كان الناخبون الذين فضلوا تقييد الهجرة، وجعلها أكثر صعوبة، أكثر ميلاً إلى دعم ترمب عن منافسيه الجمهوريين، وفي الانتخابات العامة التالية كان الذين تحولوا من دعم الرئيس أوباما عام 2012 إلى دعم ترمب بعد أربع سنوات، هي مجموعة صغيرة، لكنها حاسمة تفضل قواعد هجرة أكثر صرامة، وساعدت أصواتها في تغيير نتائج ولايات ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا لمصلحة ترمب عام 2016 وفقاً لتحليل مجموعة دراسة الناخبين غير الحزبية.

ومن الواضح أن هذه التوجهات لم تتغير، بل زادت رسوخاً في المجتمع الأميركي، حيث سلط استطلاع أجرته مؤسسة يوغوف وصحيفة لوس أنجليس تايمز قبل أسبوعين، الضوء على استمرار هذا الانقسام، واستمراره في تشكيل سياسة الولايات المتحدة، فقد وجد الاستطلاع أن ثلاثة من كل عشرة أميركيين بالغين يعتقدون أن الهجرة تجعل البلاد أسوأ وهؤلاء صوتوا بنسبة 77 في المئة لمصلحة ترمب، بينما يعتقد 35 في المئة من المستطلعين أن الهجرة تجعل البلاد أفضل حالاً، وهؤلاء دعموا بايدن، في حين يقول الثلث المتبقي إنهم إما لا يعرفون أو لا يعتقدون أن الهجرة تحدث فرقاً كبيراً، ونصف هؤلاء لم يدلوا بأصواتهم في انتخابات عام 2020.

الثقافة وليس الاقتصاد

ولأن الآراء انقسمت بشأن المخاوف الاقتصادية لدى المستطلعين ما يعني أن القضايا الاقتصادية ليست بالضرورة الدافع الأكبر لمعارضة الهجرة، بدا أن النقاش بشأن الهجرة تحركه المشاعر التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا الهوية والثقافة التي دفعت إلى الانقسام الحزبي في عهد ترمب، وانعكس في صناديق الاقتراع الانتخابية.

وعلى سبيل المثال، يشير استطلاع الرأي السابق إلى أن 58 في المئة من ناخبي ترمب يقولون إنه ينبغي إنهاء برنامج “داكا”، الذي يعطي الحق في العيش والعمل بشكل قانوني في الولايات المتحدة لنحو 610 آلاف مهاجر شاب جاؤوا إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني وهم أطفال، في حين أن 78 في المئة من ناخبي بايدن يؤيدون استمرار هذا البرنامج، كما يقول ما يقرب من 70 في المئة من ناخبي بايدن أنه يجب السماح للأشخاص، الذين يعيشون حالياً في الولايات المتحدة من دون إذن قانوني بالبقاء، بينما يقول 75 في المئة من ناخبي ترمب إنه يجب أن يُطلب منهم المغادرة.

كيف بدأ الانقسام؟

لم يكن هذا الانقسام الحزبي العميق موجوداً قبل 35 عاماً، فقد منح قانون إصلاح الهجرة الذي وقعه الرئيس الراحل رونالد ريغان في عام 1986، وضعاً قانونياً لنحو 2.7 مليون مهاجر كانوا يعيشون في الولايات المتحدة من دون إذن، وأقر مشروع القانون مجلس الشيوخ بغالبية 63 صوتاً، بما في ذلك 34 ديمقراطياً و29 جمهورياً، لكن خلال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت الآراء حول الهجرة تصبح أكثر استقطاباً، حيث اكتسب دعاة تقييد الهجرة قوة في الحزب الجمهوري.

وعلى مدى عقدين من الزمن، قاوم قادة الحزب، بمن فيهم الرئيس جورج دبليو بوش والمرشحون الجمهوريون للرئاسة جون ماكين عام 2008 وميت رومني عام 2012، هذا التحول، إلا أن ترمب استخدم القضية بنجاح لهزيمة مؤسسة الحزب، ثم وسّعت رئاسة ترمب بسرعة الفجوة الحزبية بشأن الهجرة، وغير الديمقراطيون وجهات نظرهم، وأصبحوا أكثر تفضيلاً تجاه المهاجرين في مقابل تزايد معارضة الجمهوريين، وتأكيد ثلث ناخبي ترمب أنهم يرون حتى الهجرة القانونية مشكلة في الولايات المتحدة.

ومع إدراك بعض الديمقراطيين أهمية قضية الهجرة، بدأ الواقعيون منهم في اتخاذ مواقف شبه حيادية إزاء قضية الهجرة، بخاصة من يضعون أعينهم على الولايات المتأرجحة التي تصبح فيها قضية الهجرة ورقة انتخابية حاسمة، على رغم ضغوط غالبية الديمقراطيين من أجل تخفيف قيود الهجرة.

مشكلة مستمرة

وبصرف النظر عما يمكن أن تنتهي إليه المحكمة العليا، تظل الأزمة قائمة على الحدود الجنوبية من المكسيك، حيث يواصل عدد كبير من الناس تسليم أنفسهم لمسؤولي الحدود وطلب اللجوء، قائلين إنهم يفرون من الاضطهاد في أوطانهم، في حين يظل الآلاف والملايين ممن دخلوا بالفعل إلى الولايات المتحدة أو عاشوا فيها سنوات أو عقود ينتظرون تغير القوانين، فوفقاً لأحدث الأرقام التي أصدرتها جامعة سيراكيوز، ينتظر 787882 شخصاً في الولايات المتحدة، المثول أمام القاضي لعقد جلسة استماع بشأن طلبات اللجوء الخاصة بهم، ويمكن أن يستغرق التأخير سنوات بشكل روتيني.

كما يعيش نحو 10.5 مليون شخص حالياً في الولايات المتحدة من دون تصريح قانوني، والعديد منهم الآن مقيمون منذ فترة طويلة، ودشنوا أعمالاً تجارية، ورسخوا جذورهم في المجتمع، بينما يتعثر التشريع لحل هذه القضايا وغيرها من قضايا الهجرة في الكونغرس لما يقرب من عقدين من الزمن.

الأكثر كرماً

وعلى رغم التشدد الواضح في سياسات الهجرة، تشير بيانات خدمات المواطنة والهجرة الأميركية إلى تجنيس ما يقرب من مليون مهاجر بالغ كمواطنين أميركيين في العام الحالي 2022، وهي ثالث أعلى حصيلة سنوية مسجلة في تاريخ الولايات المتحدة، بعد عامي 1996 و2008 اللذين سجلا أكثر من مليون متجنس من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، في وقت يؤكد موقع وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة تستضيف مهاجرين أكثر من أي دولة أخرى، حيث يصل أكثر من مليون شخص كل عام كمقيمين قانونيين دائمين وطالبي لجوء ولاجئين، وفي فئات الهجرة الأخرى، إضافة إلى مئات الآلاف من الأفراد المولودين في الخارج، الذين يحصلون على الجنسية الأميركية كل عام من جميع الأعراق والأعمار والأديان، ما يجعل الولايات المتحدة أكثر دول العالم كرماً للهجرة.

وعبر التاريخ، شهدت الولايات المتحدة موجات كبيرة من الهجرة بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل أو من أجل الحريات الدينية، ومع ذلك فقد تخللت هذه القرون قوانين هجرة متشددة حيث كان أول تشريع فيدرالي مهم يقيد الهجرة هو قانون الاستبعاد الصيني لعام 1882، كما وضعت الولايات المتحدة نظاماً للحصص يفضل المهاجرين الأوروبيين قبل أن تنهيه في عام 1965.

فوائد الهجرة

لكن على رغم العناوين الرئيسة المثيرة حول الفوضى على طول الحدود الأميركية – المكسيكية، ظلت معدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة ثابتة خلال العقد الماضي عند 480 ألف وافد سنوياً، مقارنة بنحو 890 ألف وافد سنوياً في العقد الأول من الألفية، ومع ذلك يرى باحثون أن استخدام سياسة طرد المهاجرين، أو تقييد سياسات الهجرة يضر الاقتصاد الأميركي من حيث عدم مواكبة الطلب الزائد على العمالة (10.3 مليون فرصة عمل مقابل 4.3 مليون عاطل)، حيث يشير غوردون هانسين، الأستاذ في جامعة هارفارد الأميركية، وماثيو سلوتر، أستاذ إدارة الأعمال في كلية دارتموث، إلى أن أحد الحلول في مكافحة التضخم يكمن في فتح باب الهجرة أمام العمالة الأجنبية، وأن الانخفاض السريع في معدلات الهجرة يجعل من الصعب على أسواق العمل الأميركية أن تؤدي مهامها بكفاءة.

وفي مواجهة ما يردده رافضو الهجرة بأن المهاجرين يستنزفون الاقتصاد الأميركي، وأن تقليل الهجرة سيجعل الاقتصاد أقوى، يشير تقرير اقتصادي نشرته مؤسسة “فوروارد”، إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تحتاج إلى المهاجرين، لتظل قادرة على المنافسة، ودفع عجلة النمو الاقتصادي، لأنهم يخلقون وظائف وهم مبتكرون ومبدعون ومستهلكون يتمتعون بقوة شرائية هائلة تدفع اقتصاد أميركا، كما يضيف المهاجرون 2 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة على الأقل كل عام ويسهمون بنحو 500 مليار دولار للضرائب الحكومية والمحلية والفيدرالية، كما ينفق المهاجرون نحو 1.2 تريليون دولار لشراء السلع والخدمات، وتحفيز النشاط التجاري المحلي.

ويحذر التقرير من أن التخفيضات التي يقترحها البعض لنظام الهجرة ستكون لها آثار مدمرة على اقتصاد البلاد، ما يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة اثنين في المئة على مدى عشرين عاماً، وتقلص النمو بنسبة 12.5 في المئة، وإلغاء 4.6 مليون وظيفة، كما ستتأثر الولايات الصناعية بشكل خاص، لأنها تعتمد على الهجرة، لتحقيق الاستقرار في سكانها وإنعاش اقتصاداتها.

صراخ عبر الحدود

ومع تباين وجهات النظر بين السياسيين، أصبح هذا هو المكان، الذي تقف فيه الولايات المتحدة الآن، ومع وجود سلسلة من قضايا الهجرة التي لم يجر حلها وأمل ضئيل في تسويتها في ظل مزيد من الصراعات السياسية والقانونية المتوقعة مع رفع عدد من الولايات التي يقودها الجمهوريون دعوى قضائية لمحاولة إنهاء برنامج “داكا”، حيث من المرجح أن تعود هذه القضية إلى المحكمة العليا عام 2023، ومن المتوقع أن يتصاعد المزيد من الصراخ عبر الحدود في عام 2023، إلى أن يتغير الوضع.

إندبندنت

Exit mobile version