لا تعليب الخضر..
فمصانع التعليب الحكومية للخضر – والفاكهة – اندثرت من زمان..
تماماً كما اندثرت مصانع النسيج..
ولكننا إزاء ظاهرة تعليبٍ من نوع مربك… ومضحك… ومبكٍ في آنٍ معاً..
تعليب أخبار الصحافة..
ثم تحليلاتها… وتحقيقاتها… وحواراتها..
فحتى الحوارات الصحفية بتنا نُفاجأ بها معلبة في صحافتنا..
سيما الفنية منها مع أهل الكفر… والوتر… والمايك..
فتجد حواراً مع مذيعة فضائية ما – مثلاً – منشوراً بالصحف كافة..
تجده منشوراً بنصه… وأحرفه… وشولاته… وضبانته..
بل حتى الصور المُرفقة – ويا للغرابة – هي الصور ذاتها… ذاتها..
طيب كيف؟… وأين؟… ومتى؟… حدث هذا؟..
كيف تصادف هذا التزامن العجيب الذي يصعب أن تجد له تفسيراً؟..
كيف تحوّلت الصحافة – فجأةً – من الطبخ إلى التعليب؟..
كيف باتت تتشابه على القراء كبقر بني إسرائيل؟..
أغلب الظن أن هنالك مصانع تعليب صحفي ظهرت في الآونة الأخيرة..
مصانع تعبئ… وتعلب… وتغذي… الصحافة كل يوم..
وأول مرة ألاحظ فيها هذه الظاهرة كان قبل نحو عامين تقريباً..
كان حواراً مع مقدم برنامج ديني اسمه خضر..
ونُشر الحوار – بحذافيره… وعناوينه… وصوره – في عدة صحف..
فتساءلت إن كان هو خضر؟… أم نبي الله الخضر؟..
فهذه معجزة فريدة من نوعها..
علماً بأن الخضر هذا قال إن الفضائيات سعت إليه..
بينما كاتب هذه السطور كان شاهد عيان على سعيه – هو – الدؤوب إليها..
وكان يرتدي – أحياناً – حللاً خضراء..
فصارت حلل البريق على الشاشة؛ وربما كان يتجمل بها ولا يكذب..
وقد يكون قرينه هو الذي كنت أشاهده..
فهو – كما قلت – صاحب معجزات؛ ويكفي دليلاً على ذلك حواره المنداح..
والمعجزة لم تقتصر على خضر هذا وحده..
وإنما انداحت بشكل مضحك..
والبارحة سألت زميلاً – صحافياً – عن أسبابها..
سألته إن كانت هنالك مراكز صحفية تقوم بهذا التعليب نظير أجر معلوم..
فاكتفى بضحكة طويلة لم أفهم منها شيئاً..
أو ربما فهمت منها أنني دقة قديمة؛ ولا أفهم ما استجد في دنيا الصحافة..
ولكنه هو أيضاً دقة قديمة..
دقة من زمان ما قبل الميلاد العنكبوتي..
ثم اكتشفت أن المسؤول ليس بأعلم من السائل، إلا قليلا..
والقليل هذا هو محض اجتهادٍ من جانبه..
فهو مسؤوليته التحريرية تقتصر على إجازة ما يأتيه من مواد صحفية..
أما كيف أتت فهذا فضولٌ غير مطالب به..
ثم إنه لا يعلم أن المادة ذاتها قد وصلت إلى رصفائه بالصحف الأخرى..
المهم بعد فراغه من ضحكه أجاب عن سؤالي..
قال إنه يظن أن المواد المعلبة تُؤخذ من النت؛ من مطابخ النت لا الصحافة..
والذين يعلبونها هم أصحابها أنفسهم..
ووصف مَن يستسهلون الطعام الجاهز هذا – من الزملاء – بالكسل المهني..
وخلصنا – معاً – إلى أن هذا أحد عوامل تراجع الصحف..
فهي صارت تستورد غذاءها من مصانع التعليب؛ تعليب المواد الصحفية..
من أخبار السياسة؛ وحتى أخبار ندى القلعة..
فلم يبق للجرائد سوى قلعة واحدة..
قلعة الرأي!.
صحيفة الانتباهة