*كنت حضورا في جلسة محاكمة الرئيس البشير ، كان الناس يتحلقون من حول المحكمة وكأنهم ينتظرون شيء ما سيحدث ؛ كان حضور المدنيين حول المحكمة محدوداً ، وقد تحولت ساحة المحكمة إلى ثكنة عسكرية حيث تواجدت كل القوات الأمنية ، من جيش وشرطة ، إضافة للدعم السريع ؛ جيئ بالبشير محمولا على ظهر (حافلة ركاب) صغيرة (هايس) مغلقة تماما من كل الجوانب ، ولم تفتح منها نافذة واحدة، وتكفل التظليل الداكن الأسود بحجبه تماما عن أعين المستقبلين المصطفين بخارج المحكمة، وأحاطوا به من الخلف ومن الأمام وقد تقدمتهم نجدة عسكرية تفتح لهم الطريق للسجن ..!!*
*وحينما خرج البشير من المحكمة لاحظت على وجوه العسكريين إحساس الخيبة والعجز والتقصير كونهم سجانون لهذا القائد – وليسو حراسا له ! لاحظت أن كل السيارات المدنية والعسكرية التي كانت خارج فناء المحكمة كانت تستمع للراديو الذي ينقل الخطاب، وقد تم رفع الصوت عالياً ليستمع كل المارة ومن هم بالقرب من المكان ، كان لسان حال الجنود وهم يستمعون للخطاب يقول (استبدلنا هذا الأسد بهؤلاء الضعفاء) ، كان كل شيئ من حولهم ينطق ضجرا واحتجاجا (دون أن يقول كلمة واحدة) ، أحدهم علق قائلًا (والله راجل) وردد الآخرين من خلفه وكأنهم كانوا ينتظرون من يفتتح لهم باب النقاش ، وقد بدت على ملامحهم النشوة واحساس الدفء الغريب..!!*
*تحدث البشير بثبات واختار كلمات محسوبة، فبعضها كان للمحكمة التي يخاطبهم، وبعضها كان للقوات المسلحة ! وبعضها كان للخارج، الخارج الإقليمي والدولي ! وغالبيتها كانت للشعب السوداني فقد خاطبهم جميعاً ؛ وخاطب فيهم الإرادة والاستقلال والوفاء ، خاطب فيهم العقل والقلب والروح والجسد – واكتفى بإشارات للعقلاء من القوات الأمنية حينما قال (أنا ضابط مظلي قمت بمسؤوليتي الوطنية تجاه السودان)، و اللبيب بالاشارة يفهم..!!*
صفوة القول
*لم يستغل البشير السانحة لتوجيه اللائمة على احد ! ولم يتوقف كثيراً عند عتاب الخونة ! ولم يتشفى في إرسال رسالة لدول الإقليم التي تسجنه وتحاكمه الآن ! واكتفى بمخاطبة وكلائها بشيئ من الواقعية ، وقليل من الاحسان ، فذكرهم بمعطيات الواقع قبيل انقلاب ٨٩ ، ودعا العسكريين دعوة مبطنة لحماية البلاد من الانزلاق والمخازي ولم يكترث كثيراً لمضمون اعترافه بتهمة الانقلاب فقال إنه فعلها – نعم فعلها لوحده ، خطط ونفذ وحكم لثلاثين عاما بين فيها ما أنجز واعتذر عن الأخطاء التي وقعت فيها ، ويكون البشير بذلك قد وضع المحكمة أمام امتحان عسير فإما أن تستمر في محاكمته سياسيا، أو أن تطلق سراح المدنيين وتحيل البشير إلى محكمة عسكرية لتفعل ما تشاء ، ويكون البشير لذلك قد ترك الأمر برمته في يد البرهان وحميدتي، فقد وضعهم الرجل في المسرح الذي يريد وهزمهم في مسرح السياسة والقانون.*
بابكر يحيى