حصلت ديون السودان الخارجية على وعود بالتخفيض بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين ضمن مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون “هيبيك”. وقدمت المبادرة التي أطلقت عام 1996 أكثر من 100 مليار دولار إلى 37 دولة. وبينما أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ترحيبهما بانضمام السودان إليها في 30 يونيو (حزيران) 2021، وكان من المفترض أن تمهد لإعفاء ديونه الخارجية، تسببت إجراءات الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 في إجهاض أي مساع خارجية للجدولة أو الإعفاء النهائي.
الآن بعد توقيع “الاتفاق الإطاري” في 5 ديسمبر الحالي بين المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي السوداني و”قوى إعلان الحرية والتغيير- المجلس المركزي” ومجموعات متحالفة معها، ينظر السودان إلى منحة أكبر لأنه ما لم يمر بمرحلة التعافي الاقتصادي وبناء المرونة والقدرة على الصمود في مواجهة الأزمات الاقتصادية الماثلة، فلن تستطيع الحكومة المشكلة تطوير استراتيجيات جديدة لحل التحديات البنيوية.
عندما تسلم نظام الرئيس السابق عمر البشير الحكم، كان على استعداد للوقوع أكثر في فخ الديون لتثبيت حكمه لولا الفرقة بين توجهه “الإسلاموي” والغرب، وفرض مبدأ المشروطية من قبل البنك الدولي بضرورة الإصلاح السياسي.
ولم يترك النظام السابق كثيراً من الأصول التي يأخذ بعضها شكل رأس المال المادي مثل البنية التحتية، أو رأس المال البشري بما في ذلك الصحة والتعليم. وبسبب عدم الاستقرار والعزلة السياسية ظل السودان يعاني قصور برامج التنمية وفي حاجة دائمة إلى رؤوس الأموال، ويفتقر إلى المدخرات، مما جعله يرضخ لمؤسسات مثل البنك وصندوق النقد الدوليين وبات مرغماً مثل غيره من الاقتصادات النامية على الرضوخ أيضاً للسياسات المالية حتى يضمن تدفق المساعدات بعد تضخم الفوائد على حساب المواطنين.
بين منح ومنع
خلال مؤتمر باريس الذي عقد في مايو (أيار) 2021 كان السودان حصل على تعهدات ضخمة شملت إعفاء الحصص الأكبر من الديون الجماعية والفردية، إضافة إلى تمويلات لعدد من مشاريع البنية التحتية والتنمية. وأعربت وزارة الخزانة الأميركية عن ترحيبها “بالإعلان الصادر عن صندوق النقد الدولي الذي أشار إلى أن السودان نجح في تسوية ما يقرب من 1.4 مليار دولار من المتأخرات المستحقة للصندوق”. وكان البنك وصندوق النقد الدوليين أبلغا مجلسيهما التنفيذيين أن تقييماً أولياً توصل إلى أن “السودان على وشك تلبية مطلوبات الإعفاء من ديونه الخارجية في إطار مبادرة هيبيك”.
لكن بعد إجراءات البرهان جمدت المؤسسات المالية الدولية مساعدات مالية وإنسانية كانت موجهة إلى السودان قدرت بنحو مليارين ونصف مليار دولار، إضافة إلى ملايين الدولارات كانت مقررة لدعم القطاعات الزراعية والخدمات. وأعلنت “مجموعة نادي باريس” تعليق قرار إعفاء السودان من ديونه البالغة نحو 60 مليار دولار. وأشار تقرير المجموعة السنوي في يونيو الماضي إلى أنها ستواصل التنسيق مع البنك وصندوق النقد الدوليين ومؤسسات التمويل حتى تتأكد من عودة البلاد إلى المسار الانتقالي المدني الذي حصل بموجبه على تلك الإعفاءات.
قال الأستاذ المشارك في كلية الدراسات التجارية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا محمد الناير “كانت ديون السودان الخارجية قبل الثورة نحو 50 مليار دولار والآن تقترب من حاجز الـ60 مليار دولار وهي تتزايد بصورة سنوية بمعدل من 1 إلى 2 مليار دولار بسبب فوائد الديون وجزاءات التأخير، لذلك فإن أصل الدين فقط 17 مليار دولار”.
وأضاف “الاقتصاد السوداني تحمل أعباء كبيرة بسبب تراكم الديون واستحق إعفاءه منها منذ عهد النظام السابق بعد استيفاء كل الشروط الفنية لكن لاعتبارات سياسية ورفض الولايات المتحدة للنظام القائم في تلك الفترة كان هناك إصرار على عدم استفادة السودان من مبادرة هيبيك، علماً أن دولا كثيرة في أفريقيا أعفيت من ديونها بناء على هذه المبادرة عدا السودان.
وأردف، “بعد الثورة بدأ المجتمع الدولي خطوات لإعفاء الديون، ثم جاءت إجراءات 25 أكتوبر التي اتخذها الدائنون والمجتمع الدولي حجة لعدم الوفاء بالوعود في مجال الديون والمنح والقروض والمساعدات، وهذا العقاب انعكس مباشرة على الشعب وليس على النظام، كما في السابق عندما حظرت الولايات المتحدة السودان اقتصادياً”.
الوعد الصيني
وعد الرئيس الصيني شي جينبينغ رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان بأن تبحث بلاده قضية ديونها على الخرطوم كعضو فاعل في “منتدى التعاون الصيني العربي” و”منتدى التعاون الصيني الأفريقي” خلال لقائهما على هامش القمة العربية- الصينية التي استضافتها الرياض أخيراً.
ومنذ مجيئه إلى الحكم استبدل النظام السابق المؤسستين الماليتين الدوليتين بما تمثل له على أنه “المخلص” الذي تجسد في الصين. وحصل السودان في البداية على قروض ميسرة ومعونات بتسميات عدة وتمكنت الصين من الاستثمار في كل الفرص المتاحة من النفط إلى الزراعة إلى البنى التحتية، حتى تفاقمت ديون السودان وأصبح يوصف بأنه من أفقر دول العالم بعدما كان “سلة غذاء العالم العربي”، ويبلغ دخل الفرد (مجموع السكان 44 مليون نسمة) نحو 590 دولاراً فقط في السنة بحسب البنك الدولي. كما أصبحت الحكومة تخضع لكثير من الضغوط الدولية لمواصلة خدمة قروضها الخارجية مع تعثر الاستفادة من مبادرة “هيبيك”.
وتعليقاً على ذلك قال الناير إن “اللقاء الأخير بين الرئيس شي جينبينغ والفريق البرهان في الرياض يشير إلى أن الصين متحمسة لإعفاء الديون أو جدولتها بصورة مريحة، وهو ما يخفف الأمر بصورة جلية. بالنسبة إلى المتأخرات هي قروض بشروط غير ميسرة لأن السودان كان محظوراً اقتصادياً من الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً، ولم تكن لديه خيارات سوى اللجوء إلى جهات أخرى شرقاً للحصول على قروض، ولم تكن بالشروط الميسرة ذاتها الخاصة بصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من المؤسسات الدولية”.
مراوغة المجتمع الدولي
وتابع الناير “معلوم أن مجموعة دول نادي باريس هي الأبرز في الداعمين الخارجيين وهي تشكل نسبة مقدرة من حجم الدين الخارجي لكن ديون هذه المجموعة إضافة إلى الديون الثنائية تحتاج إلى أن يغير المجتمع الدولي نظرته تجاه السودان. وإذا تم تشكيل حكومة كفاءات مستقلة كما هو متوقع خلال هذه المرحلة الانتقالية وتحديد موعد للانتخابات وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية، فمن شأن ذلك أن يدحض حجة المجتمع الدولي في ما يتعلف باستفادة السودان من مبادرة هيبيك”.
ويعتقد الناير بأن “المجتمع الدولي يراوغ، خصوصاً أن الوضع على مستوى العالم يشهد تشكل نظام عالمي يختلف عن النظام الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لاتفاق ’بريتون وودز‘ الذي وقع في الولايات المتحدة بحضور 44 دولة لوضع الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي، وشمل ثلاث ركائز أساسية هي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، المتعثرة الآن بسبب الحروب الاقتصادية التي نشبت بين الولايات المتحدة والصين والحرب الروسية – الأوكرانية”.
وحول تطورات الديون يقول الناير “من المتوقع في المستقبل القريب ألا يكون الدولار عملة قياس عالمية للنفط والذهب كما كان عليه منذ ’بريتون وودز‘. وربما يحدث تغير في المشهد، خصوصاً بعد العقوبات التي فرضت من قبل الغرب على روسيا وارتدت على الولايات المتحدة وأوروبا. وعليه، لن يكون هناك اتجاه لإعفاء ديون السودان، خصوصاً أن الغرب حتى الآن يمارس ضغوطه مما يضطر البلاد إلى الاتجاه مرة أخرى شرقاً نحو الصين وروسيا، نظراً إلى أن النموذج الصيني يتميز بتجربته الاستثمارية من قبل في السودان وأنه لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول عكس النموذج الغربي الذي يزعج كثيراً من الدول جراء تدخلاته”.
وأردف “ربما تدفع القمة الأميركية- الأفريقية واشنطن إلى تغيير سياساتها نحو أفريقيا وتخفف من سياسة التدخل في الشأن الداخلي لدولها وربما يغير هذا من المعادلة إن استطاعت الولايات المتحدة فعل ذلك”.
بقاء الوعود
بقيت الوعود بإعفاء الديون وفك تجميد القروض والمساعدات معلقة حتى أكتوبر الماضي إبان اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين السنوية التي شارك فيها وفد السودان برئاسة وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم الذي أعلن أن “البنك وصندوق النقد الدوليين اشترطا فك تجميد الدعم المالي بتشكيل حكومة مدنية في البلاد، لئلا تؤدي إلى تداعيات قاسية ربما يتعرض لها الاقتصاد السوداني بسبب وقف الدعم الدولي”. وتبدت هذه النتيجة بعد عقد وفد السودان لقاءات على هامش اجتماع المؤسستين الدوليتين مع مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية والعربية، حيث نوقشت العقبات التي تعترض معالجة ديون السودان الخارجية وفرص استفادته من المبادرات الدولية لإعفائها.
وبهذا الخصوص ذكر الناير “لن يحصل السودان على ما وعد به المجتمع الدولي، أولاً لأن الولايات المتحدة قصدت ألا يستخرج نفط السودان وحدث ذلك أوان استكشاف شركة شيفرون الأميركية النفط في البلاد لكنها غادرته قبل أن تستخرجه، وثانياً لاستمرار النزاعات والحروب بإسهام من الغرب في عدم الاستقرار، فقد رعى من قبل انفصال الجنوب ومارس ضغوطاً أخرى على السودان”. وأوضح “هذه كلها إشارات إلى أن المجتمع الدولي وإن كانت لديه وجهة نظر سلبية تجاه النظام السابق، فهو أيضاً لم يعط حكومة عبدالله حمدوك في نسختيها الأولى والثانية أي دعم يذكر، بل على العكس دفع السودان تعويضات بنحو 330 مليون دولار لاتهامه بتفجير المدمرة كول والسفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام على رغم عدم الإدانة بصورة نهائية، مما أدى إلى تدهور قيمة العملة الوطنية. كما عقدت نحو ثمانية اجتماعات لشركاء السودان خلال الفترة الانتقالية لكن لم تحصل الخرطوم على شيء”.
ويعتقد الناير بأن “المجتمع الدولي لا يتعامل مع السودان بنوع من الإيفاء بالعهود والمواثيق وسيظل هذا الأمر معلقاً بتوقيع الاتفاق النهائي لتشكيل حكومة مدنية. فمن ناحية إجرائية لن يكون هناك مكان في الفترة الانتقالية لدساتير وهي من صميم مهمات الحكومات المنتخبة تستطيع أن تقرر في شأن السودان وقضاياه الجوهرية”. وأضاف “تشكيل حكومة كفاءات تهتم بالشأن الاقتصادي للبلاد وتحسين معاش الناس بينما تهيئ لانتخابات حرة نزيهة، سيحقق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، قياساً على موارد السودان الطبيعية الضخمة، وهذا هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة بما فيها الديون”.
استعادة المسار
من جهته يقول الكاتب الصحافي محمد مهدي مصطفى، “بعد ثورة ديسمبر استعاد الشعب المسار الديمقراطي وبدأ انفراج الأزمة وشهد السودان انفتاحاً خارجياً لقبوله بالإصلاحات الاقتصادية وفقاً للشروط الميسرة لقروض البنك الدولي. والمدرك للأزمة الاقتصادية التي يمر بها المواطن السوداني يعي أن هناك حاجة ماسة وضرورية لهذا التمويل لإنشاء وإنعاش مشاريع إسعافية توازي حجم اقتصاد يعاني الفساد المتراكم لعقود”.
وأضاف، “قطعت حكومة عبدالله حمدوك شوطاً في مفاوضات جدولة إعفاء ديون السودان الخارجية بالتعاون مع الدول الدائنة وظهرت بوادر انفراج الأزمة خلال فترة توليه المنصب بتعهدات بقروض وإعفاءات من المانحين شرط استعادة المسار الديمقراطي في البلاد، وكان صندوق النقد الدولي حينها اعتزم تقديم وتسهيل قروض ائتمانية لتمويل مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والزراعة بالتزامن مع مزيد من الإصلاحات الاقتصادية وفقاً لجدولة صندوق النقد الدولي، إلا أن السودان دخل في نفق مظلم حين أعاد القائد الأعلى للقوات المسلحة الفريق عبدالفتاح البرهان عجلة الاقتصاد إلى الوراء بإعلانه انقلاب 25 أكتوبر وإقصاء القوى المدنية وحرمانها من المشاركة في السلطة”.
إندبندنت