عبد الحميد توفيق يكتب.. السودان وتحديات تغيير المسار

المعيار الأكثر حاجة للتعويل عليه في المشهد السوداني اليوم يرتبط بشكل وثيق بإرادة الشخصيات الموقعة على الاتفاق الإطاري وإخلاصها في ترجمة بنوده ومتطلباته على أرض الواقع،

ولا يعفي كذلك تحفظ أو رفض بعض الشخصيات والقوى السياسية والحزبية المعارضة من مسؤولية الانخراط في العمل ضمن مساراته انطلاقا مما تعتقد أنه سبيلها لتحقيق غاياتها على قاعدة تقديم المصلحة العليا للبلاد والعباد على مغريات ونوازع الانتماءات الضيقة. ويأتي ذلك بحيث يمكنهم اعتبار الاتفاق فرصة للمشاركة في تفعيل بنوده والإسهام في جعله ملبيا لرغباتهم ومحققا لأهدافهم من ناحية، وجسراً للالتقاء على كلمة سواء مع بقية المكونات الأخرى من ناحية أخرى، وبالتالي التأسيس لممارسة اللعبة الديمقراطية بعد وضع قواعدها وترسيخها دستوريا بمشاركة الجميع.

بتوقيع الاتفاق؛ وضع السودانيون أنفسهم بجميع انتماءاتهم العسكرية والمدنية والجهوية أمام تحديين مصيريين، الأول تحدي الذات المُنتمية لمنطلقات ومبادئ وأهداف المرجعيات الحزبية والسياسية التي يعمل ضمنها كل فصيل أو تيار. والتحدي الثاني هو تحدي الاحتياجات الوطنية لبلد عانى ما عاناه من تشرذم وانقسامات وصراعات حزبية وسياسية وعسكرية خلّفت متاعب ومصاعب جمة للشعب السوداني ولمؤسسات وبنى الدولة، وعرّضت سلامته للخطر في كثير من المنعطفات.

الاتفاق الإطاري بين مكونات السلطة والمعارضة وأجنحة الحكم العسكرية والمدنية رسم ملامح الغد السوداني المنشود ضمن رؤية وخطوط نظرية واضحة للسير بهديها كما هو مفترض، وقد أوحت بنوده بأن الدروب سالكة نحو الهدف المشترك المتمثل بصياغة دستور يضمن تنفيذ عملية التحول إلى الحكم المدني الديمقراطي من خلال ركيزتين: أولها إجراء انتخابات شفافة تؤسس للركيزة الثانية وهي التداول السلمي للسلطة.

مرّ السودان بعدة فترات انتقالية دون أن يتمكن من عبورها أو عبور واحدة منها بسلام إلى مرافئ الاستقرار. تغلبت الصراعات الداخلية على جميع المسارات التي أسست ورافقت مجريات كل فترة. تناوبت التجاذبات على المشهد وتقلبت التموضعات وتغيرت، وانقلب حلفاء الأمس على بعضهم .. أيضاً؛ محاولة التعايش بين المكونين العسكري والمدني في مرحلة سابقة بدت تجربة غير متجانسة ولا تملك أي حظوظ بسبب تنافر خلفيات ومحددات كل واحد منهما والمقاربات المتعارضة على المستويات كافة بدءً بإدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية مرورا بمعالجة الملف الاقتصادي الضاغط وصولا إلى التباين في التعاطي مع المظاهرات التي عمّت مختلف أنحاء البلاد احتجاجا على تردي الأوضاع العامة.

لابد من القول إن الاتفاق الإطاري مجرد محاولة جديدة صاغت خارطة طريق محددة المعالم، وهو ليس الأول من نوعه، وإذا ما أراد السودانيون جعله الأخير فإن ذلك غير بعيد، لكن فقط عندما تنطلق الأطراف كلها من تشخيص الواقع القائم بشفافية، والوقوف أمام ما يتهدد البلاد من مخاطر اقتصادية وأمنية وقراءتها بمعيار وطني، بحيث تتمكن من بلورة قواسم مشتركة فيما بينها ومع خصومها تحفظ بها توازن العلاقة والمصالح بين المكونات كافة.

أزمات السودان متعددة، وكلها انبثقت عن الأزمة السياسية العميقة التي يعيشها منذ سنوات. تراجع حالة الاستقطاب الداخلي منذ توقيع الاتفاق قد تكون أولى علامات التعافي، وذلك يقتضي التعاطي مع ما تضمنه الاتفاق على أنه اللبنة الأولى التي يمكن البناء عليها، فما حملته سطوره يؤشر إلى ملمحين مهمين:

• الأول تثبيت خروج الجناح العسكري من حكم البلاد والانكفاء نحو مهامه العسكرية.

• الثاني التأكيد على أن تكون السلطة مدنية ديمقراطية برلمانية في نهاية المرحلة الانتقالية بعد 24 شهرا.

الاستحقاقات المقبلة ستكون مقياسا لاتجاه البوصلة السودانية على كل المستويات لأنها ستحدد مسارات ونتائج ما تم الاتفاق عليه بين المكونات العسكرية والمدنية وستكون بمثابة الامتحان لمدى جديتها في المساهمة في تغيير مسار البلاد والعباد ونقله من حالة التشرذم والصراعات إلى ميادين الاستقرار السياسي والمجتمعي والاقتصادي.

نقطة النهاية لمسيرة الاضطراب في السودان حددها أبناؤه، لتبقى النتيجة النهائية للتفاعلات السياسية والحزبية خلال الفترة الانتقالية المقترحة مقياسا لما سيكون عليه مستقبلا. طي صفحة الارتباك السياسي تعني بداية الانتقال العملي إلى ميادين صناعة استقرار دائم في جميع القطاعات.

آنَ للمخاضات الصعبة التي مر بها السودان أن تلهم أقطابه بضرورة استثمار المناخ الذي أفرزته أجواء التفاهمات وتوقيع الاتفاق الإطاري، والسعي لتنفيس الاحتقانات السياسية، والمباشرة في فتح الطريق أمام مكوناته لإحداث عملية التغيير المأمولة.

بوابة العين الاخبارية

Exit mobile version