“لن تُبْصرْنا بمآقٍ غير مآقينا.. لن تَعْرِفْنا ما لم نجذبك فَتَعْرِفَنا وتكاشفنَا.. أدنى ما فينا قد يعلُونا يا ياقوتْ.. فكن الأدنى تكن الأعلى فينا”.. الفيتوري..!
صحيفة عربية سياسية مستقلة أتت على ذكر عادة “البطان” في الأعراس السودانية، ليس بوصفها مظهراً شعبياً تراثياً كرنفالياً، كما لعبة “التحطيب” في صعيد مصر أو كما ضرب النار في بادية الأردن. كلا، بل أعربت في سردها التقريري عن دهشتها من غرابة المشهد وكأنّها تتندّر بشأن بعض طقوس القبائل الأفريقية البدائية “وإن كانت العادات البدائية أيضاً ليست محل تندُّر”..!
أما الطريف حقاً فهو الصورة المرفقة مع التقرير “حفل جرتق للاعب نيجيري وثق له بعض أفراد الجالية السودانية في أمريكا”. فعلت تلك الصحيفة العربية الشقيقة هذا وكأنها تتحدث عن غرابة طقوس الزواج عند قبائل “الرورو” أو مراسم التعامل مع جثث الموتى في غينيا، وليس كأن هذا السودان – أو بعضه – جزء مفترض من وطنها العربي الكبير..!
وبينما نعرف نحن “خُدام الفكي” – المجبورون على صلاتهم – شعراء العرب ومطربيهم، لا يعرف مواطن تلك الصحيفة العربية شاعراً كبيراً اسمه عمر الطيب الدوش، له قصيدة رائعة في “ركزة العاشق” وهو يجلد على إيقاع الدلوكة، وهي لا تعرف أيضاً مطرباً عظيماً اسمه الكابلي كان قد تغنى بها “لامن وصلت الحفلة زاحمت الخلق.. وركزت شان البت سعاد.. أصلي عارف جنّها في زول بيركز وينستر”..!
شئنا أم أبينا، هذا هو بالضبط مطب الهوية ومأزق أبي دلامة التاريخي الذي يأبى أصحابه الأعراب إلاّ أنّ يؤكدوا في كل سانحة على أنه ليس أكثر من نديم مجلس، أبعد نسباً وأقل حسباً. الأمر الذي يُعيدنا – من جديد – إلى إسقاط مقولة المتنبي الشهيرة عن مقاييس الجمال..!
المتنبي يقول في شأن الجمال الشكلاني للإنسان “حسن الحضارة مجلوب بتطرية.. وفي البداوة حسن غير مجلوب”. بينما الحسن في عُرف الدول هو عامل الجذب العرقي والثقافي، أما التطرية الحضارية – بحسب ذات العُرف – فهي الملاحة السياسية، والحذلقة الشعبية، والشطارة البروتوكولية..!
ماذا يفعل إذن شقي الحال أبو دلامة الذي أقسم على نفسه أن يقدم تفرُّده بوسامته “الهجين” قرباناً لآلهة العروبة؟. ناسياً قماشته الإثنية، مُتناسياً تفرُّده الجغرافي، متجاهلاً خصوصيته الإقليمية ومزاياه الشعبية المدفونة تحت أنقاض التمثيل السياسي الأخرق..!
يغني العرب فيطرب أبو دلامة لألحانهم، يرقص الأفارقة فيُشاركهم رقصاتهم. يعرف الكثير عن هذا ويحفظ الكثير عن ذاك، بينما لا يكاد يعرفه أحد. فالآخر نفسه في حيرة من أمره بشأن هويته المائعة، وأبو دلامة لا يتجشم عناء الحسم والتنوير. كيف يفعل ومعظم أبنائه يظنون واقعة انفصال جنوبه عن شماله هي الحدث الحاسم في معركة الهوية..؟!
بين صدق هؤلاء أو كذب أولئك، تبقى حقيقة واحدة لا مراء فيها (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). ما لم يتغيّر المنطلق الذي يحكم علاقتنا بأنفسنا، لا ينبغي لنا أن نتفاءل بحدود الإطار الذي يحكم علاقتنا بالآخر. ذهب الجنوب، تقلّصت المساحة، انطلقت دعوات التعريب والأسلمة، تفاقمت حملات الفرز والتصنيف والإقصاء. ثم ماذا؟. لا جديدٌ يُذكر في معضلة الهوية العائمة..!
ولسوف تبقى احتفالية “البطان” عند قبيلة الجعليين، أو رقصة “البالمبو” عند قبيلة الزاندي – في أذهان إخواننا الذين لا يقدرون مواضع اختلافنا وأحبائنا الذين لا يُثمِّنون مواطن تفرُّدنا – وجهين غائمين لغربة السودان الواحدة..!
صفة الصيحة