وجبت الخشية أن يخضع الاتفاق الإطاري الذي وقعت عليه قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) مع العسكريين، الإثنين الماضي، ممن هم في صف الثورة بالذات إلى “القراءة الإطاحية” في مصطلح عوض الجاز، القيادي في الحركة الإسلامية والوزير في دولة الإنقاذ، وهي في واقع الأمر ليست قراءة، وإنما طي للصفحة وإلقاؤها في سلة النفايات، وليس باعث هذه الخشية أن الاتفاق قد كفى وأوفى وخلا من المطعن، بل ربما العاهة أيضاً.
لكنك لن تجد مع ذلك نصاً مثله أحسن تبويب فقه مدنية الدولة بما لا مزيد عليه، وتكاد تقرأ من وراء سطوره كيف نفذ مطلب ثورة 2018 بهذه المدنية، بل مطلب أجيال صدحت به منذ ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964، إلى العقيدة العسكرية السودانية، فوثقت له بعذوبة في الاتفاق الإطاري.
فلم تقض الوثيقة باتخاذ “القوات المسلحة عقيدة عسكرية تلتزم بالنظام الدستوري وبالقانون وتقر بالنظام المدني الديمقراطي أساساً للحكم، ويكون رأس الدولة قائداً أعلى للقوات المسلحة” فحسب، بل حظرت أيضاً “مزاولة القوات المسلحة الأعمال الاستثمارية والتجارية، ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية وفقاً للسياسة التي تضعها الحكومة الانتقالية، وتخضع تلك الأعمال لولاية وزارة المالية وقواعد الحوكمة الاقتصادية”.
قيل كل شيء يبدأ بأغنية وبدا أن كل شيء يبدأ بمطلب وشعار. سيكون من أبواب النقد الإطاحي التغاضي عن هذه الصيغة المبتكرة الدقيقة في الاتفاق الإطاري عن الحكم والقوات المسلحة لنركز على ما استحق المؤاخذة منه، وهو كثير، فمن الإهمال ألا يرى من شقوا الحلوق إلحاحاً على هذا الفقه، وفدوه بالمهج والأرواح، مطلبهم وقد صار ثقافة عامة.
وصدق القائل إن الشيء حين يأزف وقته فليس بوسع قوة في الأرض أن تحول دون وقوعه، فبمثل هذا الفقه في الاتفاق الإطاري صار للأمة جيش بعد أن كان للجيش أمة.
ولم يتأخر النقد الإطاحي، جاء من جهات لم توقع على الاتفاق من قوى الثورة في حين كانت نادت، ولا تزال، بمطلب مدنية الدولة، فحجتهم على الاتفاق أنه “يشرعن” انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أطاح الحكومة، بينما الواجب العاجل، بحسب رأيها، هو إطاحته.
ومصطلح “الشرعنة” قديم مع هذا الجيل السياسي، فظلوا طوال عقود حكومة الإنقاذ الثلاثة يرمون من متداخل بشيء معها بـ”شرعنتها”، فالانقلاب عندهم قد انتزع السلطة بطريقة غير شرعية وكل اصطلاح معه وبأي صورة شرعنة له.
ليست في شريعة هذا الجيل تسوية مثل الاتفاق الإطاري مع أن التسوية مثل رقصة التانغو مما ينهض به طرفان، فإذا ألغيت طرفاً بجرة قلم انتفت التسوية، والبديل عنها هو الحرب الضروس حتى يقضي طرف على طرف قضاء مبرماً، وليس هذا ما تنتهي إليه حتى كل الحروب في ساحات الوغى، ناهيك عن الصراعات السياسية، فالتسوية هي الصراع نفسه بطريقة أخرى.
عقدة المسألة هنا ليست جواز التسوية، بل هي في ما أعدت لها من رباط الخيل، أي القوة، قبل الجلوس إلى مائدة التفاوض لأجلها. وهنا نقطة الضعف الأم في الحرية والتغيير (المجلس المركزي) في تعاقده مع العسكريين، فقد نزف المركزي طاقته نزيفاً خلال الأعوام الثلاثة الماضية. فلم يعتزله الحزب الشيوعي بعيد توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس (آب) 2019 فحسب، بل قرر الحزب أيضاً إسقاط حكومته الانتقالية، وقعد له كل مقعد، ووجه نيرانه للجنة إزالة التمكين، كما لم يفعل حتى خصومها الأشداء من أهل النظام السابق، فوصفها قيادي شيوعي بأنها مجرد “تخدير الناس”.
ومع أن سقوط الانتقالية كان بيد العسكريين في انقلاب 25 أكتوبر، لكنه ربما كان دور الشيوعيين في ذلك السقوط أكبر مما يبدو للعيان، فهزوا الشجرة وغيرهم جنى الثمر، وها عاد الحزب الشيوعي اليوم ليقرر مسبقاً إسقاط الحكومة التي ستنشأ من هذا الاتفاق الإطاري.
من جهة أخرى، تقطعت أسباب قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بلجان المقاومة، فلم تنجح خلال أعوامها الثلاثة في الحكم بتجسير ما بينهما بصورة مؤسسية، فشغلتها الدواوين وصراعاتها عن إحكام الصلة بالمقاومة، فلم تجعل هذه القوى من التحقيق في فض اعتصام القيادة الدموي في يونيو (حزيران) 2019، مصدر الحرج التراجيدي لشباب المقاومة، واسطة عقد معهم.
وظل ديدن من انتخبتهم الحكومة لقيادة هذا التحقيق الشكوى، بل مر الشكوى، من ضعف عناية الحكومة بلجنته من جهة توفير دار لائقة كمركز لها، وإعدادها بالمعينات، ومقابلة نفقات فحص الأدلة في الداخل والخارج، وساءت سمعة اللجنة في نظر الشباب حتى إنهم لم يكترثوا لها حين وضع العسكريون يدهم على دارها بعد انقلاب 25 أكتوبر.
وبلغ جفاء لجان المقاومة للمركزي حد التعرض لمواكبه، بل عدم الاعتراف به، فمنعت المقاومة انعقاد موكب للمركزي في إحدى ساحاتها التقليدية، ولم توجه الدعوة له إلى حضور مناسبة تدشين ميثاقها السياسي ككيان أو حلف، وبدلاً من ذلك أرسلت الدعوة إلى مكوناته من الأحزاب والهيئات فرادى، واضطر المركزي إلى الاعتذار باسم مكوناته عن حضور المناسبة.
وزاد طين ضعف المركزي بلة خروج حزب البعث العربي الاشتراكي الأصل منه لمعارضته الاتفاق الإطاري، وهو حزب مؤثر ولكادره مثل وجدي صالح، عضو لجنة إزالة التمكين المحلولة، رمزية كبيرة في قيادته.
وكان من رأي البعث أن الاتفاق الإطاري “شرعنة” للانقلاب في حين إسقاطه هو الأولوية بتعبئة للشارع في جبهة عريضة.
ومن المفارقة أن وجدي صالح الذي خرج من الحبس بفضل الاتفاق الإطاري، انتهز سانحة مخاطبة لجمهور مستقبليه خارج مركز الشرطة ليعلن اعتزال حزبه الاتفاق جملة واحدة.
وبينما كان الخلاف يعصف بالمركزي كان العسكريون قد عززوا صفهم عند كل منعطف في صراعهم معه، فاستنفروا زعماء القبائل والصوفية بعد فضهم اعتصام الثوار من حول قيادة القوات المسلحة في 3 يونيو 2019، ثم وقعوا من وراء ظهر الحكومة الانتقالية سلام جوبا في أكتوبر 2020 شراكة مع حركات مسلحة من دارفور وحلفاً.
وهي القوى نفسها التي كانت وراء اعتصام القصر الجمهوري التي دعت العسكريين إلى حل الحكومة الانتقالية قبيل انقلاب 25 أكتوبر 2021. وفتح العسكريون الباب بعده على مصراعيه ليستعيد أنصار النظام القديم أراضيهم.
فجمد الانقلاب لجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ لترد لهم المحاكم الأموال والمنقولات التي نزعتها منهم اللجنة، وأعادت طواقم النظام القديم في الأمن والاستخبارات والبيروقراطية، وتشكلت من قوى النظام القديم كتل مناوئة للمركزي مثل “نداء السودان” التي حركت التظاهرات لفرض حقيقة شارعها المضاد للجان المقاومة.
بلغ أنصار النظام القديم من القوة في هذا السياق حتى خاف منهم الفريق عبدالفتاح البرهان على نظامه، ولذا لم يشقق القول في خطاب له بقاعدة حطاب العسكرية الشهر الماضي ليطلب من الإسلاميين بالاسم أن يرفعوا يدهم عن القوات المسلحة، وسألهم بغير لبس إن لم تكفهم 30 عاماً حسوماً من الحكم، بل لربما تولد الاتفاق الإطاري، موضوع حديثنا، في هذه الملابسات التي قربت النظام القديم من البرهان قرباً غير مريح، وهذه حكاية أخرى.
الاتفاق الإطاري اتفاق خلافي آخر استجد وسط القوى الموصوفة بالثورية، ويمكن القول ناظرين إلى خطاب خلافهم حول الوثيقة الدستورية (أغسطس 2019)، إنهم لا يحسنون الخلاف، وبينما لا يريد أحد مصادرة حقهم في الخلاف طالما كان رحمة، لكن عادة الإطاحة متمكنة منهم، فالافتراض، بل الحقيقة، أن المعاني التي جاء بها الاتفاق مثل فقه القوات المسلحة والدولة التي بدأنا بها المقالة، عزيزة على قوى الحرية والتغيير كافة، لكن جاء المركزي إلى مائدة التفاوض حولها ووثيقتها على وهن كما بيّنا، وليست هذه بشارة في مثل هذه الأحوال، لكن مهما يكن من أمر فسيصونها الخلاف متى كان رحمة بين أطراف قوى الحرية والتغيير فيشيعها ثقافة بين الناس.
عبدالله علي ابراهيم
إندبندنت عربية