أي مصير ينتظر اتفاق الحل السياسي للأزمة السودانية؟

يواجه بترحيب دولي والانقسامات الداخلية الحادة تهدد مصيره
على رغم الترحيب الإقليمي والدولي والأممي الواسع الذي حظي به الاتفاق السياسي الإطاري بين المكون العسكري والمدنيين بقيادة الحرية والتغيير ومجموعة من الأحزاب والكيانات الأخرى، غير أن الوضع في الداخل يعكس واقعاً مختلفاً حافلاً بالانقسامات بين الرفض والقبول والتصعيد المناهض له من طيف متباين من الأحزاب والكتل والكيانات السياسية والمدنية، بينما لا تزال الاحتجاجات على الاتفاق مستمرة، مما يجعله موعوداً بتحديات وتعقيدات كبيرة.

إشعال وتصعيد

أشعل الاتفاق الساحة السياسية سخونة وتشتتاً ما بين معارض ومؤيد أو صامت منتظر مع سيل من المعارك الكلامية والاتهامات والتهديد، فضلاً عن أزمة متلازمة فجوة الثقة ونقض العهود التاريخية في السياسة السودانية، مما يكشف عن أن تعقيدات كثيرة تواجه الاتفاق التمهيدي للحل السياسي للأزمة السودانية، فأي مصير ينتظره وسط هذه التحديات؟

في أول خطوة تالية تتسق مع إعلان الآلية الثلاثية الشروع فوراً في مشاورات التوافق الأوسع، أطلق الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) محمد الحسن الميرغني مبادرة لتوسعة قاعدة الاتفاق السياسي الإطاري، حض فيها القوى السياسية كافة على الالتحاق بالاتفاق كضامن للأمن والاستقرار واستئناف الدعم الدولي. وجاء في بيان للحزب إن المرحلة الحالية تتطلب تغليب المصلحة الوطنية، مؤكداً حصول الحسن على تأييد من لجان الحزب”.

يشار إلى أن الحزب الاتحادي برئاسة محمد عثمان الميرغني، وله ابنان جعفر ومحمد الحسن، الأول نائب رئيس الحزب والثاني وقع باسم الحزب في الاتفاق الإطاري، فجمد الحزب عضويته وانشق على نفسه.

وفي سياق التصعيد حذر نائب رئيس قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) جبريل إبراهيم مما سماه “اللعب بالنار”، واصفاً التوقيع الإطاري بين العسكريين والمدنيين بأنه غير شرعي وتجاوز قواعد العمل السياسي، وقال خلال ندوة “الأزمة والمخرج” التي نظمتها الكتلة الديمقراطية في الخرطوم إنهم كتلة كبيرة لا يمكنها على الإطلاق أن تلتحق بهذا التوقيع غير الشرعي.

ودعا ما يسمى “التيار الإسلامي العريض” الذي يضم كيانات عدة بما فيها عضوية الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني المنحل كل التكتلات السياسة الوطنية والاجتماعية والأهلية إلى الوقوف صفاً واحداً لمناهضة هذه التسوية بالوسائل السلمية كافة حتى إسقاطها وعدم السماح لأقلية غير منتخبة أو مفوضة شعبياً أن تشكل حاضر ومستقبل البلاد منفردة.

ودعت مقاومة الخرطوم إلى استمرار المواكب الاحتجاجية صوب القصر الجمهوري مقر مجلس السيادة الانتقالي.

كما حذر رئيس اللجنة السياسية في قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) مني أركو مناوي من أن هذا التوقيع ستكون له تداعيات خطرة وأنه كان من الأجدر بدلاً من ذلك أن يتم جمع كل المبادرات المطروحة من أجل الخروج برؤية موحدة.

تحديات وغموض

في السياق، وصف المحلل الأمني في مركز الدراسات الاستراتيجية أمين إسماعيل مجذوب الاتفاق بأنه يمثل الحد الأدنى الذي ينتظر أن يؤسس للاتفاق النهائي الخاص بالانتقال الديمقراطي ومدنية الحكم بالسودان، مضيفاً “لذلك هو في حده الأدنى يجسد مواجهة بين قوى سياسية تشجع الانتقال الديمقراطي في مقابل قوى أخرى تقف ضده إما بسبب تضرر مصالحها، أو مخاوفها من ألا تجد لها أي تأثير أو مكان في التسوية السياسية الحاصلة الآن”.

ويشرح مجذوب أن هذا الواقع يخلق تحديات كبيرة تواجه الاتفاق أهمها معارضته من أصحاب الخيارات الصفرية “اللاءات الثلاث” في بعض لجان المقاومة والحزب الشيوعي وتحالف الحل الجذري، ويشير إلى أن عدم وضوح بعض النقاط المتعلقة بدمج القوات في جيش وطني واحد، إضافة إلى ملفات العدالة الانتقالية ومراجعة اتفاق جوبا للسلام توحي كلها بأنها ستكون معضلة كبيرة، ستواجه أيضاً بالمعارضة، بخاصة في ظل تلميح بعض الحركات الموقعة على الاتفاق وتهديدها بالعودة إلى مربع الحرب، مما يهدد بجعل الاتفاق الإطاري منصة ربما تقود إلى الاقتتال من جديد.

ويردف، “صحيح أن نصوص الاتفاق تقول إنه سيؤدي إلى إنهاء الأزمة السياسية وخروج المكون العسكري من المشهد السياسي، لكن تبقى مسألة الإيفاء بالعهود والالتزامات حاضرة في تاريخ السياسة السودانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وهي حجر الزاوية في أي اتفاق”.

كيف يتسع التوافق؟

من جانبه يعتقد الباحث والمحلل السياسي محمد الأمين مدثر بأن الاتفاق الإطاري بمثابة خطوة متقدمة نحو الحكم المدني الديمقراطي، لكنها تظل خطوة على طريق الألف ميل، إذ لا يزال الدرب أمامه شائكاً ومحفوفاً بالتحديات وربما العراقيل التي قد تهدد مصيره مستقبلاً، على رأسها الموجة الكبيرة من الرفض والانقسامات على مستوى الكتل السياسية والحركات المسلحة الكبيرة ذات الثقل كحركة العدل والمساوة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، وكلاهما موقعتان على اتفاق جوبا للسلام، فضلاً عن تعدد حالات الانشقاق وسط القوى السياسية تجاه الاتفاق التي وقع بعضها عليه واختار بعضها الآخر ضفة المعارضة.

ويضيف مدثر أن “انتقال الاتفاق من المرحلة الأولى إلى الاتفاق النهائي لا يزال أيضاً مشروطاً بتوافق سياسي أوسع من دون تحديد معايير هذا الاتساع وكيف يكون ومن يشمل؟”، مشيراً إلى أن هذه الضبابية تجعل الأمر كله يرتبط بمدى صدقية المكون العسكري الذي لطالما عرف باستغلال هامش المراوغة وسياسة تطويل أمد الأزمة، منذ أن أطاح الشراكة في انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021”.

ويلفت المحلل السياسي إلى أنه من غير الواضح حتى الآن متى سيتم تعيين رئيس الوزراء ليختار الحكومة المدنية بعد الفراغ التنفيذي والدستوري الذي ظلت تعيشه البلاد منذ الانقلاب؟ فالوضع أيضاً ضبابي وربما رهين التكهنات ويطرح استفهاماً مهماً حول هل يتم تعيين رئيس للوزراء الآن أم أنه سينتظر (الاتفاق النهائي)؟

يتابع، “على رغم أن التوقيع شهده طيف دولي واسع اعتبره بعضهم من ضمانات التزام الأطراف الموقعة عليه، لكن تجاربنا التاريخية البعيدة والقريبة جداً حافلة بنقض العهود والمواثيق، لا سيما تجربة نقض الوثيقة الدستورية 2019 الماثلة وفرملة المسار الانتقالي الديمقراطي مما يؤكد وفق قرائن الأحوال أن كثيراً من التحديات ما زالت تنتظر الاتفاق الإطاري”.

إلى ذلك توقع مصدر سياسي ضمن الأحزاب الموقعة على الاتفاق الإطاري لـ”اندبندنت عربية” أن تكتمل المرحلة الانتقالية لتسلم السلطة المدنية الحكومة التنفيذية خلال شهر على أن تتكون من الكفاءات وبعيداً من المحاصصات وفق برامج ومهمات وإطار زمني محدد.

وأوضح المصدر من دون الخوض في التفاصيل أن الموقعين على الاتفاق حريصون على الوفاء بالتزاماتهم كافة وفق نصوصه وسيدخلون في مشاورات فورية لتوسيع التوافق حول قضايا الانتقال للخروج بروزنامة متوافق عليها لتجاوز أي عقبات أو تحديات قد تواجه الاتفاق، متمنياً أن يبادلهم المكون العسكري الالتزام ذاته”.

مخاوف وشروخ

يلفت المصدر إلى أن تجارب نقض العسكريين للمواثيق المبرمة معهم، بخاصة بعد الشرخ العميق في الثقة بينهم والمكونات المدنية الذي أحدثه انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021 على الوثيقة الدستورية 2019، ما زالت ماثلة وتعتبر ضمن التحديات أمام الاتفاق.

وبينما يعتبر الممثل الخاص للأمين العام فولكر بيرتس أن توقيع الاتفاق الإطاري اختراق مهم، لكنه يرى أنه من الضروري معالجة القضايا الملحة والشائكة في الاتفاق النهائي، تشمل إصلاح القطاع الأمني ودمج القوات والعدالة الانتقالية وتنفيذ اتفاق جوبا للسلام ووضع لجنة التفكيك والشرق.

وعبر بيرتس في إحاطته لمجلس الأمن حول الوضع في السودان، الثلاثاء 7 ديسمبر (كانون الأول) 2022، عن بعض مخاوفه قائلاً “في حين أن التقدم على المسار السياسي مشجع، إلا أنه ما زال من الممكن أن يحيد عن مساره بسبب التحديات والمفسدين”، وأشار إلى أنه “مع اقتراب السودان من الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي، فإن أولئك الذين لا يرون دعماً لمصالحهم من خلال التسوية السياسية ربما يصعدون من محاولات تقويض العملية”، منوهاً في الوقت ذاته إلى أنه “يمكن لعملية شاملة بما فيه الكفاية أن تساعد في الحفاظ على الأمن ضد تأثيرهم، فضلاً عن الحاجة إلى مناصرة متضافرة من المجتمع الدولي لتشجيع مواقف بناءة من قبل أولئك الذين لا يريدون أن يكونوا جزءاً من العملية السياسية بعد”.

وكشف بيرتس عن شروع بعثة “يونيتامس” وفريق الأمم المتحدة القطري بالفعل في التنسيق مع المجتمع الدولي على الأرض لضمان حزمة من الدعم لمرحلة انتقالية جديدة، لافتاً إلى أهمية إجراء تبادل حول الأولويات الاقتصادية والتنموية للحكومة الجديدة.

حض وعقوبات

من جانبها وفي سياق تعزيز فرص نجاح اتفاق الحل السياسي كخطوة مهمة نحو تشكيل حكومة مدنية في السودان، أتبعت الولايات المتحدة الأميركية ترحيبها بتوقيعه بعقوبات في حق كل من يعرقل مسار الحل السياسي المطروح.

وأعلنت واشنطن على لسان وزير خارجيتها أنطوني بلينكن عن توسيع سياستها الحالية في شأن “تقييد التأشيرة” لتشمل أي مسؤولين سودانيين حاليين أو سابقين أو غيرهم من الأفراد الذين يعتقد بأنهم مسؤولون أو متواطئون في تقويض التحول الديمقراطي في السودان، مؤكدة أنها لن تتسامح مع أي محاولة لتقويض إنشاء حكومة ذات مصداقية تتوافق مع متطلبات الشعب السوداني.

وأوضح بلينكن أنه يجب على أصحاب المصلحة السياسيين أكثر من أي وقت مضى وضع المصلحة الوطنية للسودان فوق الغايات السياسية الضيقة والانتظام بشكل بناء مع بعضهم بعضاً لتحقيق تطلعات شعبهم.

من جانبه حض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأطراف السودانية على العمل “من دون تأخير” للمرحلة المقبلة من العملية الانتقالية بغية الاستجابة للقضايا المتبقية بهدف التوصل إلى اتفاق دائم وجامع سياسياً.

وجدد غوتيريش في سياق ترحيبه بتوقيع الاتفاق السياسي الإطاري دعم الأمم المتحدة لتطلعات الشعب السوداني في الديمقراطية والسلام والتنمية المستدامة، آملاً في أن يفتح الاتفاق الطريق أمام انتقال البلاد إلى سلطة مدنية.

والإثنين 5 ديسمبر 2022، وقع المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي وعدد من الأحزاب والتنظيمات والتجمعات المهنية والحركات المسلحة اتفاقاً سياسياً إطارياً مبدئياً يعقبه اتفاق نهائي يمهد الطريق لتشكيل حكومة مدنية وإنهاء الأزمة المستفحلة في السودان على المستويين السياسي والاقتصادي منذ انقلاب قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان على السلطة المدنية الانتقالية التي تشكلت بموجب وثيقة دستورية للشراكة بين العسكريين والمدنيين عقب إطاحة نظام الرئيس عمر البشير في 2019.

جمال على ابراهيم

انبندت عربية

Exit mobile version