من يتجول في أحياء وشوارع مدينة أم درمان العريقة التي يطلق عليها العاصمة الوطنية في السودان، يجد نفسه أمام تراث يحكي عن واقع الحياة في تلك المدينة القديمة، فضلاً عن معالمها وبيوتها وأسواقها وأزقتها، فما زالت هذه المدينة تحتفظ بإرثها القديم، حيث كل ذرة من ترابها وكل شخص فيها يروي حكايات وقصصاً عن ماضيها المليء بالبطولات والوقائع المهمة، بخاصة فترة الثورة المهدية (1881- 1898) التي أصبحت جزءاً أصيلاً من تاريخ السودان القديم.
أشهر المتاحف
على رغم ما يزخر به السودان من متاحف ومواقع أثرية عدة، لكن يظل متحف بيت الخليفة عبد الله التعايشي الذي يقع وسط مدينة أم درمان في منطقة غنية بآثار حقبة الدولة المهدية، وعلى بعد أمتار من مرقد قائد الثورة المهدية الإمام محمد أحمد المهدي، من أشهر وأهم المتاحف في البلاد.
أنشأ هذا البيت، الذي يتكون من طابقين، أحد رجالات أنصار المهدي ويدعى حمد عبد النور، ووضع خريطته المعماري الإيطالي بيترو في عام 1887، وتم تشييده عام 1891، وتحول عام 1928 إلى متحف يرتاده السياح والعشرات من المهتمين والباحثين.
يوثق هذا المتحف، الذي يمثل لوحة عمرانية لا مثيل لها في السودان في ذلك الوقت، لأهم الحقب التاريخية ممثلة في الدولة المهدية وما بعدها، ويحتضن كثيراً من مقتنيات قادة المهدية، سواء كانت مخطوطات ومراسلات وأدوات مختلفة، فضلاً عن قطع أثرية تخص رجالات المهدية أمثال عبد الرحمن النجومي، وعثمان بابكر دقنة، إلى جانب آثار خاصة بالسلطان علي دينار تم ترحيلها من متحفه بدارفور.
كذلك يحتوي المتحف على مجموعة من الأسلحة النارية والمسدسات والمدافع البدائية والدروع التي اغتنمها ثوار أنصار المهدي من جنود الاحتلال، إضافة إلى آليات صناعة الذخائر، والأسلحة البيضاء كالحراب والسيوف.
كما يضم المتحف آثاراً من فترة الحكم التركي مثل النقود والمطبعة الحجرية وغيرها مما تركه الأتراك بعد إجلائهم من السودان.
ديوان الحكم
أول من سكن هذا البيت هو الخليفة عبدالله التعايشي، وكان يمثل مقر ديوان حكمه ويمارس فيه عمله، ويقابل فيه الأمراء والحكام وكبار مساعديه، حيث يتلقى منهم التقارير ويوزع عليهم المعلومات والمهام.
كما تعاقب على السكن في هذا البيت عدد من كبار موظفي المستعمر البريطاني، الذين حول بعضهم البيت إلى اصطبل للخيول.
تبلغ مساحة البيت نحو 3500 متر طولي من الشمال إلى الجنوب، و129 متراً من الشرق إلى الغرب، ويتصل البيت بباب الجامع، حيث كان الخليفة ينتقل من بيته إلى الجامع من خلال هذا الباب ليؤم المصلين، إلى جانب عدد من الأبواب منها باب لزوجاته وباب يدخل منه شقيقه يعقوب، وهنالك أنفاق تؤدي إلى بيت المال وسجن أم درمان.
مراحل استخدامه
في السابق كان بيت الخليفة عبدالله التعايشي (المتحف) عبارة عن مظلة من القش مفتوحة الجوانب تسمى (الراكوبة)، فهي تمثل الجزء الرئيس من البيت، وفي المرحلة الثانية بني الطرف الواقع ناحية الغرب وهو يتكون من دورين، لكن بعد هزيمة جيوش الخليفة التعايشي في معركة كرري مطلع سبتمبر (أيلول) 1898، ودخول الجيش الغازي أم درمان، استقر كتشنر لفترة من الزمن في هذا البيت إلى حين إصلاح ما لحق بسرايا غردون من أضرار، ثم استخدم البيت بعد ذاك مقراً رسمياً لسكن مفتش مركز أم درمان الإنجليزي ووضع عليه علم الحكم الثنائي، لكن بعد فترة هجر البيت وأسيئ استعماله وتحول إلى إسطبلات للخيل، وبقي على هذه الحال مهجوراً حتى جاء إلى أم درمان مفتش إنجليزي يدعي برمبل فأقام في هذا البيت، وكانت زوجته متخصصة في الآثار فاقترحت على زوجها أن يتم تشييد منزل للمفتش الإنجليزي على أن يصبح بيت الخليفة متحفاً للآثار يضم كل آثار الثورة المهدية وغيرها.
جبة المهدي
وبحسب أمينة متحف بيت الخليفة عبدالله التعايشي، نعمات محمد الحسن، فإن هذا المتحف زاخر بمقتنيات نادرة، وعلى رغم تعرضه للسرقات من قبل بعض الأفراد الإنجليز وغيرهم قبل خروج المستعمر، لكن من خلال محاولات حثيثة استطاعت الحكومة السودانية في فترات الحكم الوطني أن تستعيد أجزاء منها.
وعن أهم مقتنيات المتحف تقول الحسن إنه “يحتوى على عربات كانت تجرها الجياد في العهد الاستعماري، كما يضم عربة ونجد باشا حاكم السودان وهي أول سيارة دخلت البلاد، وهناك أيضاً الأسلحة النارية مثل المسدسات، ونقود مصكوكة ورايات المهدية، إضافة إلى قطع فخارية، ونقود من عهد التركية السابقة، كما يحتوي المتحف على المطبعة الحجرية التي استولى عليها المهدي بعد فتح الخرطوم وكان يطبع عليها منشوراته، إضافة إلى جبة المهدي التي كان يرتديها في أوقات الحرب، بجانب بعض سيوف الأمراء والقادة والمقتنيات الخاصة بالجنود البريطانيين التي استولى عليها قادة المهدية في المعارك المختلفة”.
ثراء ثقافي
في حين يرى الباحث المجتمعي الطيب يوسف، أن متحف الخليفة عبدالله التعايشي يكشف عن ثراء ثقافي وفني بخاصة في ما يتعلق بتفاصيل الحياة في تلك الحقبة من الزمان، مشيراً إلى قدرة الدولة المهدية للاستفادة من التراث السوداني الخالص، خصوصاً ما يتعلق بالمعمار والتصميم الذي يعتمد على الهوية الدينية، إلى جانب القدرة الفائقة على تطوير الأسلحة القتالية بمواد محلية كفلت التفوق العسكري في كثير من معارك المهدية.
يضيف يوسف أن “المتحف يضم أزياء تعبر عن الزهد ومنها ما يطلق عليها اليوم (جبة الدرويش) وهي عبارة عن جلباب بلا ملامح مميزة، وتتألف من قطع قماش مختلفة الألوان والخامات، وأخرى يطلق عليها جلباب (على الله) أو الجبة الأنصارية التي يمكن ارتداؤها من الأمام أو الخلف حيث تحتفظ بتصميم واحد، والحكمة في ذلك أن رجالات طائفة الأنصار لا يضيعون وقتاً لمعرفة إن كان الجلباب في وضعه الصحيح بخاصة عندما يتنادون لخوض معركة”.
يعد الخليفة عبدالله التعايشي واحداً من أعظم رجالات السودان، إذ عرف بالحكمة والشجاعة وبعد النظر والدهاء، لذلك كان مقرباً من قائد المهدية محمد أحمد المهدي الذي عينه خليفةً ونائباً له.
ولد التعايشي عام 1846 في قرية أم دافوق في جنوب دارفور وتعود جذوره إلى تونس، وكان أجداده من العلماء وحفظة القرآن الكريم.
إشراقة على عبدالله
إندبندنت عربية