انشغلت الأوساط السياسية خلال الأسبوع الماضي بقوات الدعم السريع التي يقودها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة، إثر واقعتين اتصلتا بها. وأثارت الواقعتان من جديد حقيقة أزمة الهوية التي تعانيها هذه القوات، وهي أزمة من جهة غرابتها في منظومة الدولة الحديثة القائمة بالسودان مهما قلنا عنها. غير أنه إن صدقت غرابتها على الدولة الحديثة، فلن تصدق عن المجتمع السوداني وسياساته، كما تعتقد النخب السياسية. خلافاً لذلك، فهي ليست بعض حقائق هذا المجتمع فحسب، بل الدالة أيضاً على أزمته في دولته الحديثة.
كانت الواقعة الأولى هي ما كشفت عنه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن حصول “الدعم السريع” على نظم التكنولوجيا (التنصت) صنعت في أوروبا بواسطة شركة “أنتلكسا” المملوكة للاستخباراتي الإسرائيلي السابق تال ديلان.
وحملت هذه النظم “طائرة سسنا” من مطار في قبرص إلى نظيره “الخرطوم” لتنقلها سيارة انتظرتها لتحملها فور تسلمها لولاية دارفور التي شهدت ميلاد الدعم السريع في 2013 ومنطقة نفوذه، ولا تزال. وقيل عن قدرة هذه النظم إنها تحول التليفونات الذكية إلى مخبر افتراضي عن أصحابها. وأضافت الصحيفة أن من شأنها قلب ميزان القوى في السودان فيما وصفته باقتراب الصدام بين الدعم السريع والقوات المسلحة.
ونفت “الدعم السريع” الخبر بالصيغة المعروفة بقولها إن المعلومات غير صحيحة، ولا تخرج من المحاولات المتكررة لتشويه صورته بدمغه بالخروج على القانون. ودعت وسائل الإعلام ألا تنطلي عليها المقاصد من الخبر، ولكن ربما فوتت “الدعم السريع” فرصة تكذيب الخبر حين سألته الصحيفة نفسها رأيه فيه ولم تسمع منه.
علاوة على أن خبر شراء “الدعم السريع” لنظم التصنت هذه كان مقدمة “درامية” لتحقيق استقصائي مخدوم مهنياً للغاية عن صناعة هذه النظم والتجارة فيها بأوروبا تحت نظر صفوة حكام بعض دولها. وضربت هذه الصفوة عرض الحائط بعواقبها الوخيمة على حرية الرأي لأن أكثر ضحاياها من الصحافيين. وختمت الصحيفة تحقيقها بعودة على ذي بدء، أي خبر “الدعم السريع”. فقالت، “إن نظم التصنت المشتراة من شركة مركزها في الاتحاد الأوروبي مدورة الآن على بعد أربعة آلاف ميل من أوروبا في جبل مرة الذي يرتفع من فوق دارفور بالسودان”.
أما الواقعة الثانية فكان الخطاب الذي ألقاه الفريق حميدتي في مجمع لرجالات الإدارات الأهلية (القبائلية) يوم الإثنين الماضي وأثار ثائرة أنصار نظام الرئيس السابق البشير. فبجانب أشياء لن تشغلنا هنا قال حميدتي إنه مع التسوية الجارية ومع الشباب الذين يتظاهرون مطالبين بالتغيير والحكم المدني. وقال إنه معهم حتى لو هتفوا ضده و”الدعم السريع” في مثل قولهم “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.
و”الجنجويد” اسم قديم لعصب مثل “الدعم السريع” سنعرض له لاحقاً. وربما الذي أغضب أنصار النظام القديم جداً على حميدتي قوله إنه لا رجعة لما قبل 2018، وهو عام الثورة على نظام الإنقاذ الذي سقط في أبريل (نيسان) 2019. وسبق لحميدتي أن رفض مبادرة لحل الأزمة السودانية معروفة بمبادرة “الطيب الجد” التي تراص هؤلاء الأنصار من ورائها، كما أبدى تفهمه للدستور الانتقالي الذي وضعته تسييرية نقابة المحامين، والذي عليه مدار التسوية الجارية المرفوضة من هؤلاء الأنصار.
أزمة هوية “الدعم السريع” هي التي من وراء الواقعتين موضوعنا هنا. فهو جيش وقع عليه نظام الإنقاذ في ثنايا الصراع ضد الحركات المسلحة في ولاية دارفور في 2003. فلا تعريف لها في الدولة الحديثة لأنها خدمة مسلحة مأجورة لنظام أراد منها أن تقاتل عنه أعداءه بأقل كلفة. وبانت أزمة هويته في العسر الذي لقاه البشير في تسكينه بهيكل دولته. فتشردت “الدعم السريع” بين الجيش والأمن والاستخبارات حتى جرت هيكلتها في يوليو (تموز) 2017 بقرار من البرلمان أتبعه للقائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو البشير رئيس الجمهورية. وصارت “الدعم السريع” شبه جيش ثانٍ مربكاً، ولا يزال. ووصف أحدهم القوى النظامية المكونة من الجيش المهني و”الدعم السريع” بالجمل ذي السنامين يستغرب له من لم يعتد إلا على الجمل ذي السنام الواحد. وزاد طين هويته بلة أنه أطاح حبله السري بالدولة، البشير، فانقلب السحر على الساحر.
ليست نظم التصنت التي ذاع خبرها هي الواقعة الأولى لـ”الدعم السريع” في سعيها إلى أن تتصل بأسباب الحداثة. فهي أمام تحدٍ أن تكون جيشاً كامل العدة في حداثته لتبقى، أو أن تستعد لتغادر ساحة سياسية لا تعريف لها فيها. فإما أن تعرف نفسها بنفسها أو تخضع للدمج في القوات المسلحة، وهو أفضل الاقتراحات المتداولة عن مستقبلها، وأبغض الحلال عندها. والمال عندها واجد، والسوق رحبة لمثلها. وكثر الحديث عن أنها سعت وتسعى لتتزود بدبابات وطائرات لأنها لن تقوى على الجيش المهني بغير هذين الإمكانيتين. وربما كان الضجر من “الدعم السريع” هو الذي وراء انقلابات غامضة فاشلة تقع هنا وهناك في الجيش، ويجري الترويج لها وكأنها معادية للثورة.
وليس عبثاً أن يقول تقرير “هآرتس” إن نظم التصنت التي حصلت عليها “الدعم السريع”، أخيراً، سترجح كفتها في أي صراع منتظر مع القوات المسلحة. وإنكار “الدعم السريع” الخبر باب كبير في أزمة هويتها. فواضح أنها لا تقوى على عقد صفقات لتحديثها على مرأى ومشهد كما تفعل الجيوش، بل تحتاج إلى أن “تختلس” التحديث اختلاساً.
وتريد الصفوة السياسة بمختلف أطرافها أن تنفي “الدعم السريع” عن مجتمعها وسياسته كل في توقيته الخاص. ولا يطرأ لأي منهم أن هذا الجيش خرج علينا من ثقوب حوكمتهم التي لم تطاول الريف بإحسان، فأصابته حالة تعرف بـ”صدأ الريف”. فلما غبنت “الدعم” قوى الثورة بعد دورها في فض اعتصام القيادة الدموي في الثالث من يونيو (حزيران) 2019 صرفوها كمرتزقة أجانب من تشاد، وسخروا من مؤهلات حميدتي، أو لا مؤهلاته، وسار بين الناس أنه “فريق خلاء”، أي إنه لم يكتسب الرتبة عبر سبلها المعروفة.
وأغضبت كلمته أمام زعماء القبائل الأخير أنصار النظام القديم لقوله إن العودة لما قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 مجرد أضغاث أحلام وجب لأصحابها أن يفيقوا منها. فاستنكر أحدهم على الفريق عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، أن يتهدد الإسلاميين في خطاب أخير بالويل الثبور لأنه اتهم حفنة منهم بالعمل السياسي داخل الجيش بنيات انقلابية، بينما لا يرى غضاضة في “الدعم السريع” الذي هو حالة سياسية منقطعة النظير. ولم يكن هذا وجه اعتراضهم على سياسة هذا الجيش لما انقلب في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 على الحكومة الانتقالية التي قامت بعد الثورة وقضت على نظام البشير.
أقصر طريق لفهم أزمة هوية “الدعم السريع” هو النظر إليه كظاهرة من حالة “صدأ الريف”. فهو مجتمع شباب بين الرعاة من العرب خاصة، تصدعت حياته بالمحل الذي ضرب شمال دارفور، وربما تشاد منذ السبعينيات. ولم تسعفه الحكومة بالتنمية. وعطل المزارعون أصحاب الدار التبادل المعاشي الذي حكم علاقاتهما تاريخياً مثل إطلاق الرعاة سعيتهم في أرض المزارعين بعد الحصاد، مما كان يخفف من ضيق عيشهم. واستشرى السلاح من خرم حرب تشاد علاوة على استثارة القذافي النعرة العربية في شباب تلك الأنحاء ليستعين بهم بحربه في تشاد. فخرج هؤلاء الشباب كـ”همباتة” (ناهبو ماشية يشبهون عادة بصعاليك العرب القدماء) في أول طورهم، وشاع عنهم أنهم “جنجويد”، أي “جن حاقب جيم وراكب جواد”. وصاروا بذلك مسلحين يبحثون عن مخدم. وجاؤوا على غرض الحكومة في ذلك الوقت الذي اندلعت الحرب بدارفور في 2003. فاستأجرتهم لحرب الحركات المسلحة. والباقي تاريخ.
قال علي مزروعي إن الحركات المتطرفة وغيرها في الريف ليست ضد الحداثة، كما يروج قبيل من الصفوة. خلافاً لذلك فهي ضمت بالأحرى، بحسب قوله، ضحايا قلة الحداثة ودوا لو أنهم حصلوا على مزيد منها. ولما لم تطلهم حيث هم خرجت “الدعم السريع” مثلاً من وطأة “صدأ الريف” بنقصه المريع في الحداثة ليطلبها خلسة كما رأينا. وكانت هذه بعض حيلها لتبقى في ميدان سياسي دخلته كفاحاً لأنه لم يكن في أقصى منظور من صممها.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية