كأس العالم كما هو معلوم للجميع منافسات كروية تضم جميع قارات العالم تتنافس فيما بينها إلى أن تصل عقب كل أربع سنوات إلى منافسات تضم أمهر وأقوى الفرق لكرة القدم على مستوى العالم.
ينتظره عشاق كرة القدم بلهفة وشوق شديدين من أجل الاستمتاع بمهارات كرة القدم التي أصبح التكتيك والتخطيط والتدريب فيها لا يقل أهمية عن الموهبة وإبداعات اللاعبين.
وصارت الاستادات تشير إلى قوة الدول وتعمل على دعم أنظمتها السياسية، فتقام فيها البطولات بمشاركة رؤساء الدول.
إلا أن كأس العالم في دورته الثانية والعشرين لعام٢٠٢٢م والتي حظيت بتنظيمه دولة قطر العربية المسلمة الأمر الذي جعل من هذه المنافسة أمرا مختلفا لا يشبه جميع المنافاسات السابقة وذلك لعدة أسباب منها:
* كان ينظر لمنافسات كأس العالم على أنها منافسات غربية هي من صنعتها، وهي من أبدعت فيها، ولم تكن للدول الإسلامية سوى أنها تابعة للغرب للمشاركة في هذه المنافسة شأنها في ذلك شان مشاركتها في جميع الأنشطة الإنسانية الأخرى كالإغاثية أو الصحية أو الأمنية أو المناخية أو حتى السياسية، فلا غرابة أن تنضم الدول الإسلامية لهذه المنافسة الكروية العالمية.
وتمثيل العرب أغلبه كان يركز على المشاهدة فقط، فالمشاركة على مستوى التنظيم كان صفرا وعلى مستوى الفرق الرياضية نسبة لقوة الفرق الغربية وإمكانياتها لم تتعد المشاركة في جميع الدورات على المستوى الأول من المنافسات.
بالإضافة إلى عرض المباريات فقد أبدعت القنوات العربية في نقل وتحليل المباريات بصورة أشبعت تطلعات الشعوب العربية المتعطشة لمشاهدة هذه المنافسات العالمية.
شارك لاعبون مسلمون في منافسات كأس العالم أبرزهم كان زين الدين زيدان لدولة فرنسا وهو العربي المسلم والتي لم تخل مشاركته من اصطدام مع معتقدات تلك الدول إزاء المعتقد الإسلامي.
وبما أن هذه المنافسة الرياضية البحتة تلقي بظلالها على اللاعبين ذوي الانتماء الإسلامي، فلا شك أنها ستختلف كل الاختلاف حينما تقوم بتنظيمها دولة إسلامية.
هذا التنظيم الذي يظهر بحجم منافسات كأس العالم في بلد مسلم، فالأمر ليس سهلا سواء على مستوى المنظمين أو اللاعبين أو المشجعين.
* الصراع الذي خلفته أحداث الحادي عشر من سبتمبر لعام ٢٠٠١م بأمريكا، والتي استغلها الغرب في هجومه على الإسلام على أنه دين إرهابي جعلت من علاقة دول الإسلام بالغرب تشوبها الكثير من الشكوك والمخاوف والتحذيرات تسعى الدول الإسلامية أن تزيلها بشتى الطرق ليس بسبب الدفاع عن الإسلام فقط بل بسبب أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر خلقت قطيعة وفجوة كبيرة بين أنظمة الدول الإسلامية وبين أنظمة الدول الغربية.
لكل هذه التقاطعات لم يعد الهدف من تنظيم كأس العالم هو الاهتمام بالأنشطة الكروية فقط بقدر الاهتمام بتحسين وتغيير نظرة الغرب تجاه الدول الإسلامية وبالتالي أصبحت للمنافسات اهتمامات سياسية.
* يدخل أيضا في الاهتمام بكأس العالم أنه يحسن من بنية البلد المستضيف بجميع مرافقه تلك المتعلقة بالبنى التحتية والاتصالات والترويج لآثار وثقافة البلد المضيف، وحتى أنها تمتد لتسوق لإنسان البلد المستضيف في تعامله ووعيه ولغته وثقافته، فاجتماع كل شعوب العالم في بقعة واحدة لا شك أنه يظهر مفاهيم ويضيف معلومات لم تكن لتتوفر بمجرد السماع عنها أو مشاهدتها عبر وسائط الاتصال الإلكتروني، فليس من رأى كمن سمع.
إن الانتماء الديني والثقافي لم ولن يكن بمعزل عن كل هذه التأثيرات والمؤثرات مما يعني أن منافسات كأس العالم لم تعد منافسات في كرة القدم فقط.
الكل سوف يسعى لإبراز ثقافته ومعتقداته وقطعا سوف يشاهد ويقارن ما يحمل بالثقافات والمعتقدات الأخرى.
يظهر كل ذلك مع من يتعاملون مع المونديال بصورة مباشرة وعلى أرض الواقع.
أكثر من أولئك الذين يتابعون المونديال خارج الدولة المستضيفة.
لكل ذلك برز السؤال التالي كأمر طبيعي:
ما مدى جدوى الدعوة للإسلام من خلال فعاليات كأس العالم بدولة قطر؟
إن الدعوة للإسلام عبر مر العصور تتم عبر أوعية لا حصر لها، فما أن يوجد وعاء إلا وتجده يصلح بالدعوة عبره إلى الإسلام، فكما أن الشعر كان وعاء قويا وفعالا بالدعوة به للإسلام في عهد رسولنا الكريم فقد توالت الأوعية بعد ذلك.
المذياع وعاء.
التلفاز وعاء.
الهاتف المحمول وعاء.
الحاسوب وعاء.
مواقع الانترنت وعاء.
مواقع التواصل الاجتماعي وعاء.
فكل الأوعية سواء المكتشفة أو التي لم تكتشف بعد تصلح لأن تعبأ بالمادة الإسلامية، وسوف تؤدي دورها كأحسن ما يكون، وسوف تنشر الإسلام دون أدنى انتقاص لمبادئه وقيمه وأهدافه.
وذلك لسبب بسيط وهو أن جميع الأوعية جاءت نتاجا للعلم، والعلم ليس هو فقط وسيلة من وسائل الإسلام بل هو ركن من أركانه.
إلا أنه من شدة الابتلاء الذي سنه الله على من يتصدى لنشر دعوته أنه لم يترك سبل نشر الدعوة بهذه البساطة بحيث ما أن يكتشف الداعية وعاء إلا ويقوم بنشر الدعوة عبره.
لم يكن الأمر بهذه السهولة، وإنما اتضح أن هناك من الأوعية ما يسيطر عليه البعيدون عن أمر الدعوة كل البعد.
ومن هذه الأوعية التي يسيطر عليها الناس سواء ممن ينتسبون للإسلام وممن لا ينتسبون له في كونهم لا علاقة لهم بالدعوة ولا يضعونها في مقدمة اهتماماتهم هو وعاء منافسات كأس العالم والذي تقام نسخته هذه الأيام بالدولة العربية والمسلمة قطر.
فالبرغم من أن من ينادي بالدعوة للإسلام من خلال فعاليات كأس العالم والذي يستند في ذلك بأن الرياضة مهارة جماهيرية محايدة لا تنتسب لدين معين وبالتالي يمكن أن يتم عبرها الدعوة للإسلام وبالرغم من وجاهة هذا الرأي، ومطابقته لمنافسات كأس العالم.
بالرغم من ذلك إلا أنه يحمل وراءه حقيقة تجعل من منافسات كأس العالم رياضة غير محايدة، وذلك بسبب أن هذه المنافسة تسيطر عليها دول وثقافات لا يمكن أن تقدم القيم الإسلامية على قيمهم.
لا يمكن أن ترفع شعار الإسلام لتناهض به شعاراتهم وذلك لعدة أسباب منها:
* أنها تريد ان تكسب بهذه المنافسة العالمية الرأي العام العالمي وهو رأي لا علاقة له بالدين الإسلامي بل يكن بعضها إليه كل عداوة.
* المساهمة الكروية للمسلمين سواء في آسيا او أفريقيا ليست بمستوى القارات الغربية وبالتالي لن تتمكن من فرض تأثيرها عليها، فالكل يدرك أن استضافة دولة قطر لمنافسات كأس العالم تريد بها أن تتشرف وأن تضع لنفسها مكانة فهي في حوجة للمنافسات أكثر مما هي في حوجة إليها.
* دين بهذه الأسس والأركان والمعاني والقيم لا يمكن أن تنصره جهة تابعة.
لا يمكن أن تمثله جهة كادت أن تطير فرحا لمجرد كون العالم صوب وجهه اتجاهها.
لمجرد كون العالم وافق أن تكون من ضمن الدول المستضيفة لهذه البطولة.
* توجه من يهتمون من المسلمين بهذه المناشط الرياضية أقرب إلى اللهو والانشغال عن الاهتمام بالدعوة وقضايا الإسلام.
فهذه الأسباب وغيرها الكثير سوف لن تجعل من بطولة كأس العالم وعاء محايدا يبث عبره المسلمون عقيدتهم ودعوتهم.
فنشر الدعوة يتطلب أمرين:
إحداهما أن يكون المعروض وعاء ليس مضمونا.
فالوعاء يمكن ملؤه بالمادة المطلوبة كما حدث ذلك مع التقدم الهائل لوسائل الاتصال حيث لم يقف المسلمون إزاءه يتفرجون بل تعمقوا فيه إلى أن جعلوه اكتشاف إسلامي أكثر منه اكتشاف غربي.
أما المضمون فلا يمكن تغييره إذ لا يمكن أن يتحول الخمر إلى ماء أو يتحول السم إلى عسل، بعكس الوعاء فالوعاء الذي يحمل الخمر والسم يمكن أن يحمل الماء العذب والعسل المصفى.
الثاني ألا يكون الوعاء مستغلا أومسيطرة عليه جهة ليس همها نشر الدين بقدر ما همها الظهور والكسب السياسي.
الضابط في كون النشاط الإنساني وعاء لا مضمون يتوقف على الملامح التي تظهر عليه، فإن كانت ملامحه غير إسلامية ولا ينادي بها الإسلام، فحينئذ انتفى على هذا النشاط أن يحمل صفة الوعاء، وبقيت حالته عبارة عن مضمون له صفاته الخاصة به يدعو لها.
أما إن كان النشاط تصلح ملامحه أن تكون إسلامية تدخل في دائرة المباحات ولا تقترب من دائرة المحرمات، فحينئذ تنطبق عليه صفة الوعاء مثله في ذلك مثل الشعر والفيس بوك والواتس والتويتر وغيرها من الوعاءات التي تحولت إلى قنوات إسلامية مئة بالمئة.
هذه هي النظرة الخاصة بكأس العالم من ناحية الوعاء والمضمون.
كما يمكن النظر إليه أيضا من ناحية أخرى وهي أنه لا يمكن أن يكون المستمتع بمنافسات كأس العالم بعيدا عن تعاليم الدين وشعائره وفي نفس الوقت يدعو لتعاليم الإسلام، فشارب الخمر لا يمكنه أن يحرم شربها على الآخرين.
ووفقا لهذا التحليل لا يمكن لمن يريد أن يجعل من كأس العالم مناسبة للدعوة للإسلام سوى حالتين:
الأولى: إما أن يجعل من كأس العالم وعاء يبث من خلاله معتقادته وقناعاته.
حينما يعتز المسلمون بدينهم ويفتخرون به ويمارسون تعاليمه سوف يبثون وينشرون هذه التعاليم في جميع النشاطات الإنسانية من كأس عالم وغيره.
أما إن تركوا تعاليم دينهم وركضوا خلف الآخرين يبحثون عن العز عندهم ويفتخرون بلبس شعار (مسي) وبأسلوب حلق شعر الرأس ل(ليوناردو) فحينئذ سوف تؤثر ثقافات أولئك عليهم وسوف يصبحون هم المقلدين.
إلا أنه مما يحمد لهذا الدين ومن نعم الله على هذه الأمة هو أنه جعل له البقاء، فأمته ربما تضعف وربما تهزم هنا او هناك لكن ستظل محافظة على هويتها، وعلى عقيدتها وسيظل اللاعب المسلم يفتخر بدينه مهما أصابه من غزو رياضي أو ثقافي.
يدعو الله أن ينصر فريقه، ويحمد الله على نصر حققه، وسيظل يسجد شاكرا إذا سجل هدفا.
يفعل ذلك بسبب تغلغل الدين داخله.
يفعل ذلك بسبب أن هذا الدين عقيدة فطرية صحيحة لا يمكن أن يعمل كأس العالم او أي نشاط بشري على التأثير عليها أو إزالتها.
لذلك لا بد أن نميز بين أمرين مختلفين غاية الاختلاف وهما:
أن هذا الدين دين رب العالمين أنزله على عباده وهو قادر سبحانه على حفظه.
الأمر الثاني لا بد من سعي المسلمين للحفاظ على دينهم وتوجههم يحدث ذلك إما بتوجيه منافسات كأس العالم إلى وعاء من وعاءات الدعوة إلى الله أو بإزالة كل مضمون يسيء للإسلام.
على أن يدعوا الله في كل حين أن يجنبهم الفتن ما ظهر منا وما بطن.
الاستمتاع بكرة القدم لا يعني وضع شعائر الدين جانبا، فديننا ليس من تعاليمه أن يوزع العبادة إلى مواسم بحيث يجعل موسم للرياضة وموسم للعبادة، وإنما جعل من كل المواسم عبادة.
فالمسلم في قمة نشوته واحتفائه بفريقه لا ينسى ربه ولا يتنازل عن قيمه وأخلاقه.
جعل الله جميع مواسم المسلمين مواسم لتقوية إيمانهم ولتقوية دينهم.
محجوب مدني محجوب
صحيفة الانتباهة