يثير قرار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، يوم الإثنين الماضي، تجميد عمل النقابات والاتحادات المهنية في السودان، جملة من التساؤلات حول مغزى القرار وأبعاده والمستفيد منه.
قرارات النقابات في السودان: اهتزازات واضطراب
منذ 11 إبريل/نيسان 2019، تاريخ سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، شهدت القرارات الخاصة بالنقابات والاتحادات المهنية في البلاد، اضطراباً واهتزازاً. فبعد 18 يوماً من سقوط البشير، أصدر رئيس المجلس العسكري الانتقالي، البرهان، قراره الأول بحلّ جميع النقابات والاتحادات، وذلك تحت ضغط الشارع المنتشي بانتصار الثورة، والذي يرى أن كل النقابات العاملة في تلك الفترة ليست سوى واجهات لنظام البشير وحزبه الحاكم، المؤتمر الوطني.
قاومت النقابات المحلولة يومها، قرار رئيس المجلس العسكري الانتقالي، وأقنعته بما عدّته آثاراً سلبية للقرار على المستويين الإقليمي والدولي، لأن الاتحادات العمالية الدولية لن تعترف بالقرار باعتباره تدخلاً سياسياً في العمل النقابي.
ولم يمض شهر واحد على صدور القرار، حتى تراجع عنه البرهان وألغاه بقرار آخر، وذلك وسط اعتراض واسع من قوى الثورة السودانية، وفي مقدمتها تجمع المهنيين السودانيين، دينامو الحراك الثوري في ذلك الوقت.
وكان التجمع قد وصف التراجع عن القرار حينها، بالردة عن أجندة الثورة وإعادة للبلاد إلى مربع التمكين والطغيان، وحثّ كل العمال والموظفين على المضي قدماً في تكوين نقاباتهم الجديدة، بعيداً عن قانون النقابات المُعد من قبل نظام البشير. كما أعلن عدد من النقابات الحديثة استعدادها لمناهضة قرار البرهان الجديد بكل الوسائل والأدوات.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أجازت الحكومة السودانية (السابقة برئاسة عبد الله حمدوك) قانوناً خاصاً لتفكيك نظام حزب المؤتمر الوطني عن مفاصل الدولة (قانون تفكيك نظام الإنقاذ- نظام 30 يونيو/حزيران 1989).
لم يستسلم مسؤولو النقابات المحسوبة على نظام البشير طوال السنوات الماضية وواصلوا تمثيل النقابات السودانية في المحافل الدولية
وبموجب القانون، كُوّنت لجنة للقيام بالمهمة، لم تمض 4 أيام على تكوينها، حتى قضت بحلّ جميع النقابات والاتحادات، بما فيها نقابة المحامين وكل المكاتب التنفيذية التابعة للنقابات وأي نقابة نشأت بموجب قانون النقابات لسنة 2004 أو قانون أصحاب العمل لسنة 1992. وأجاز قرار لجنة إزالة التمكين للجنة حق حجز العقارات، والممتلكات الأخرى، والأموال وحظر التصرف فيها.
وبموجب ذلك، شرعت اللجنة في تعيين لجان تسيير للنقابات والاتحادات المهنية لحين انعقاد جمعياتها العمومية، وتعديل قانون النقابات أو سنّ آخر جديد، وهو الأمر الذي تباطأت فيه حكومة حمدوك حتى جاء موعد حلّها في اليوم الأول من انقلاب قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
من جهتهم، لم يستسلم مسؤولو النقابات المحسوبة على نظام البشير، وتقدموا بطعن ضد لجنة إزالة التمكين أمام المحاكم السودانية، وواصلوا في الوقت ذاته تمثيل النقابات السودانية في المحافل الدولية لعدم اعتراف الاتحادات الدولية أيضاً بخطوات لجنة إزالة التمكين.
إبطال قرار لجنة إزالة التمكين
وطوال السنوات الثلاث الماضية، لم يفصل القضاء في تلك الطعون، حتى وقع انقلاب البرهان، حيث شرعت بعده النقابات المحلولة في عملها، حتى أصدرت المحكمة العليا في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حكماً لصالحها ببطلان قرارات لجنة إزالة التمكين، وإعادة جميع النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام إلى نقابات عمال السودان، تماماً كما كانت عليه قبل سقوط نظام البشير، إلى حين اختيار جمعياتها العمومية مجالسها التنفيذية بطريقة ديمقراطية وفقاً لأحكام القانون.
وبالفعل باشرت النقابات القديمة وضع يدها على دور وحسابات النقابات، ونشطت طوال الأسابيع الماضية في إعادة ترتيب صفوفها من جديد.
من جهتها، انتقدت القوى السياسية والنقابات المؤيدة للثورة بشدة القرارات ووصفتها بأنها جزء من سيناريو مكتمل لما بعد انقلاب 25 أكتوبر، لإعادة توطين النظام السابق. وأكد تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، في بيان، رفضه لتلك الأحكام، مشيراً إلى أن “حلّ نقابات النظام البائد يمثل جوهر مطالب ثورة ديسمبر (كانون الأول 2018) في تفكيك بنية تمكين النظام البائد”.
كما جاء على لسان قادة التحالف تحليل آخر بأن كل ما حصل في هذا السياق، غرضه قطع الطريق أمام التسوية السياسية الشاملة المقترحة عبر مشروع دستور انتقالي اقترحته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين.
ومع اقتراب أجل التسوية السياسية بين المكون العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، والتدهور الظاهري في العلاقة بين العسكر والنظام السابق، ربما وجد قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان نفسه مضطراً إلى تجاوز الأحكام القضائية، ليصدر الإثنين الماضي، قراراً جديداً بتجميد النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل، وتكوين لجنة برئاسة مسجل عام تنظيمات العمل في وزارة العدل، مهمتها تعيين لجان تسيير للنقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل لحين انعقاد جمعياتها العمومية. على أن تختص اللجنة أيضاً بتحديد وحصر أرصدة وحسابات النقابات داخل وخارج السودان ووضعها تحت السيطرة.
أصدرت المحكمة العليا في الأول من نوفمبر حكماً ببطلان قرارات لجنة إزالة التمكين
ومهما يكن موقف النقابات الموالية للثورة تجاه قائد الجيش، إلا أنه من الواضح أنها ستكون من أوائل المستفيدين من القرارات الأخيرة للبرهان، إذ تتيح لها مواصلة نشاطها النقابي والسياسي، مثل اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، صاحبة مقترح الدستور الانتقالي. وكانت هذه النقابة دخلت خلال الفترة الماضية في معركة تعددت أشكالها مع النقابة السابقة، وصلت حدّ الاشتباك بالأيدي في إحدى المرات.
كما تستفيد من القرار لجنة أطباء السودان المركزية التي تحتكر بشكل مباشر رصد أعداد القتلى والمصابين أثناء الاحتجاجات الشعبية منذ بداية الثورة انتهاءً باحتجاجات ما بعد الانقلاب الأخيرة، وقد سعت النقابة السابقة لإبعادها استناداً للحكم القضائي. وكذلك نقابة الصحافيين السودانيين التي تواجه معركة مع الاتحاد العام للصحافيين الذي قاوم خطوات تأسيس النقابة.
كما يتيح القرار الفرصة لكل النقابات للضغط على الحكومة المدنية المتوقعة، لإجازة قانون النقابات، للشروع في بناء أجسام نقابية قادرة على الدفاع عن حقوق منسوبيهم وتستعيد الأدوار التاريخية للنقابات في الحياة السياسية والعمل العام، وهو دور مشهود وتاريخي.
بانتظار التسوية السودانية
في المقابل، يخسر النظام القديم وحزب المؤتمر الوطني المحظور، كثيراً، نتيجة لقرار البرهان، لأن الغالبية العظمى من قيادات النقابات السابقة موالون له بالكامل، بحسب كثير من التقديرات. وربما خطّط الحزب لاستخدام النقابات في معاركه السياسية المقبلة، خصوصاً إذا ما اكتملت فصول التسوية السياسية بين العسكر والمدنيين، والتي تستثني حزب المؤتمر من كل ترتيباتها، وإذا ما أعيد عمل لجنة إزالة التمكين مرة أخرى.
القيادي في “التجمع الاتحادي”، أحد مكونات تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، محمد عبد الحكم، رأى في حديث لـ”العربي الجديد”، أن التحالف مؤمن بأن أي قرار فوقي يصدر من أي جهة بشأن النقابات، هو قرار من لا يملك لمن لا يستحق، لأن السلطة الوحيدة التي لها الحق هي الجمعيات العمومية للنقابات.
رجّح عبد الحكم أن تكون إجراءات قائد الجيش الأخيرة بتجميد عمل النقابات، في سياق معركته مع النظام القديم
ورجّح أن تكون إجراءات قائد الجيش الأخيرة بتجميد عمل النقابات، في سياق معركته مع النظام القديم، وأنها جاءت ضمن قرارات أخرى له لمحاصرة النظام السابق الذي بدأ الظهور في المشهد السياسي خلال الفترة الأخيرة.
وأضاف عبد الحكم، أن المطلوب من الحركة النقابية الحرص على تنظيم نفسها وإحداث اختراقات بعقد جمعياتها العمومية بطريقة حرة وديمقراطية كما حدث في الجمعية العمومية لنقابة الصحافيين السودانيين، دون إعطاء أي اعتبار للسلطة وتدخلاتها، والاعتماد كلياً على الاتفاقية الدولية لسنة 1987 والتي صادق عليها السودان العام الماضي.
وبيّن أن النقابات في انتظارها أدوار مهمة وحسّاسة في الفترة المقبلة، لا تنحصر في حماية حقوق العاملين وتوفير البيئة اللازمة للعمل، بل تتعداها إلى العمل السياسي المدني في انتزاع الحريات الكاملة والمساهمة في التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.
من جهته، أوضح نائب رئيس اتحاد نقابات عمّال السودان المجمد، يحيى حسين، أنهم في الاتحاد لم يستلموا حتى الآن أي قرار، لا من مجلس السيادة ولا من مسجل تنظيمات العمل، وبمجرد استلامهم، سيقاومونه بكل السبل القانونية، لاسيما أنه يتعارض مع الحكم القضائي ومع الوثيقة الدستورية.
وأشار حسين، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن اتحاد نقابات عمال السودان، وفي فترة ما بعد حكم المحكمة العليا، تسلّم 90 في المائة من النقابات الاتحادية والولائية والمهنية، واكتشف مفقودات كبيرة في ممتلكاتها، ما يرجح أن القرار تقف خلفه جهة سياسية أو نقابية تريد التغطية على الفساد الذي تمّ.
ولم يستبعد حسين وقوف اللجان التسييرية خلف القرار، لجهة رغبتها في الاستمرار في قيادة العمل النقابي دون تفويض، عدا خوف العديد من الجهات السياسية، من النقابات السودانية ومن اتحاد العمال على وجه الخصوص، الذي تصل قاعدته إلى أكثر من مليون ونصف المليون شخص يؤمنون بدورهم السياسي والمجتمعي والنقابي.
ونفى حسين ما يثار من اتهامات للنقابات وموالاتها للنظام السابق وحزبه الحاكم، وأكد أن العديد من قادة النقابات لا علاقة لهم بحزب المؤتمر الوطني ومؤمنون بفكرة أن لكل حزبه والنقابة للجميع.
أما محمد علي خوجلي، الخبير النقابي، فرأى أن خطوة البرهان بتجميد النقابات، لم تكن منطقية لصدورها عن رئيس مجلس السيادة وكان ممكن تركها لمسجل تنظيمات العمل لأنه الأعلم بأوضاع النقابات وطرق إدارتها.
وأشار خوجلي في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنه ليس هناك مستفيد من القرار ولا متضرر، فالنقابات التي أعادتها المحكمة لا وجود عملياً لها بعد حلّها قبل 3 سنوات. كما اعتبر أن اللجان التسييرية المنشأة حديثاً والتي يصل عددها إلى 165 لجنة، لن تستفيد من القرار لأنها بقيت كلجان تسييرية لنحو 3 سنوات ولم تفعل شيئاً في سبيل التأسيس لقيام نقابات حقيقية، كما أن نشأتها في حد ذاتها مجروحة لأنها تكوّنت على أساس حزبي.
وأوضح خوجلي أن ما هو أكثر إفادة لكل القواعد النقابية، هو التحرك المستقل لتكوين النقابات وفقاً للاتفاقية الدولية لمنظمة العمل الدولية للعام 1987، والتي تمنح النقابات حق التكوين بعيداً عن تدخل السلطة السياسية والإدارية، ودون انتظار حتى لإجازة قانون جديد.
العربي الجديد