(1)
من اكبر الاخطاء التى وقعنا فيها بعد ثورة ديسمبر المجيدة هو اننا وضعنا (الكرة) في ملعب السياسيين، وهي كان يفترض ان تكون في ملعب (المبدعين).
البلاد محتاجة الآن الى (البناء) وليس (الهدم) – والبناء يتم عن طريق اهل الابداع في الفنون والأدب والثقافة والرياضة. السياسيون لا يحسنون غير (الهدم)، سوف يظلون يهدمون هكذا حتى لو كانوا هم اول من يتضرر من ذلك. القاعدة التي يعملون بها في السياسة هي (عليّ وعلى اعدائي) سيطبقون هذا الشعار حتى وان احالوا السودان الى خرابة او (سلة مهملات) او (نفايات) وهو جدير بأن يكون (سلة غذاء العالم).
(2)
بقعة الضوء التي نبحث عنها – تأتي من هنالك تمنحنا شيئاً من الامل والثقة التى نكاد ان نفقدها.
محتوى مدفوع
مجمع الفقه الإسلامي: ضوابط مشددة بشأن التعامل بالنظام المصرفي المزدوج
دائماً اكون مشدوهاً بالمشاريع (الجادة) – نحن تنقصنا (الجدية) في معظم مشاريعنا.
كنت من المحظوظين الذين شهدوا حفلة الفنان الشاب محمد عبدالجليل جاليلو الاخيرة في صالة المعلم والتي قدم فيها رؤية غنائية بديعة وغرس في نفوسنا شيئاً من الفرح وسط الغاز المسيل للدموع – السلطة هنا تبدع في صناعة (الدموع) وفي ان تجعلها تسيل من ابناء هذا الشعب حتى وان كلفهم ذلك اموالاً طائلة وجعلهم في قبضة المادة (130) من القانون الجنائي.
كم كنت احتاج الى ان ارى وسط هذه الانقاض صورة لفنان شاب جاد يغني للثورة وللوطن والخير.
ذلك الفنان الشاب كان هو (جاليلو) الذي ادهشنا فعلاً بجديته والتزامه الفني وهو يقدم اغنياتها الخاصة لشعراء شباب امثال محمود الجيلي واحمد البلال وعاطف شمبات والراحل علي همشري وغيرهم ممن لونوا حياتنا بدفقة امل عريضة.
ادهشتني احترافية جاليلو المهنية وإخلاصه الفني وهو يعمل بكل ذلك الجد والاجتهاد من اجل ان يقدم مشروعه الفني الخاص لجمهور اصبح تحت وطأة الاغنيات الخفيفة والسريعة التى تشبه وجبة (اندومي) تعدها سريعاً وتلتهمها سريعاً وتشبعك لحين مع مخاطرها التى تدركها ولكن لا تقف عندها.
الجمهور الذي غنى له ابراهيم عوض وعثمان حسين ومحمد وردي وعبدالكريم الكابلي كان جمهوراً مثقفاً – تواقاً الى الابداع حينما يكون برسالة ويحمل مضامين ثقافية وأدبية ووطنية كبيرة – غير جمهور هذه الايام الذي فرضت عليه الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ان يكون قابلاً للتلوث الثقافي والاختراق السهل. لم تعد هنالك مصدات للاغاني الهابطة ولا توجد خلايا لمقاومة الابتذال والانكسار – لأن كل شيء اصبح مكسوراً.
ونحن في هذا التوقيت في حاجة فعلية لجيش (البنفسج) الذي يزرع فينا الامل ويقوي فينا الثقة.
يقدم جاليلو الاغنيات الوطنية بحس ثوري عال – يجعل الوطن يتخلل في كل انسجتك وخلاياك .. عند جاليلو قدرة على التوغل في النفس دون ان يسقط ضحية واحدة او يخدش طرفاً… يفعل ذلك بطبيعة (العطر) حينما يشملك برائحته الزكية.
مثل هذه النماذج يجب علينا ان ندعمها ولا نتركها تقاتل وحدها – الدولة غائبة عن هذا المجال تماماً – ونحن ايضاً اصبحنا نغيب لنترك الساحة الفنية غارقة في ساقط الاغنيات.
النشاط الفني في السنوات الاخيرة اصبح عبارة عن صراعات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم (الاسفاف) لتكون اكثر متابعة ومشاهدة.
جديدهم الفني اصبح (سيلفي) او ماركة موبايل حديثة.
(3)
اذا تحدثنا نقدياً عن محمد عبدالجليل نقول ان تجربة جاليلو وهو في بداياته الفنية مع عقد الجلاد منحته (عمقاً) ثقافياً كبيراً – الفنان (المثقف) هو الفنان الذي يمكن ان يكون صاحب رسالة ومضمون وقضية… تفتقد الساحة الفنية للفنان المثقف.
عندما ابدع عبدالعزيز محمد داؤود كان الراحل علي المك ملحقه الثقافي ..وكان الحزب الشيوعي يمثل حاضنة ثقافية لمحمد وردي جعلته يلتقى بمحجوب شريف وصلاح احمد ابراهيم وعلي عبدالقيوم.
فنان بدون ثقافة لا يترك اثراً ولا يخلف تاريخاً.
اجتهد جاليلو بمجهوده الفردي بعد عقد الجلاد واستطاع ان يؤسس لمشروعه الفني اسلوب خاص وأغنيات روائع.
خصوصيته تظهر حتى عندما يغني للغير.
الفرقة الموسيقية المصاحبة لجاليلو اختار افرادها بعناية فائقة – بينهم هارومني وانسجام وكيمياء اضافت وتراً جديداً في الطرح الموسيقي لمحمد عبدالجليل – هو فنان يدرك ان مشروعه الفني قائم على (الموسيقى) لذلك يمنحها اهتماماً خاصاً. يظهر ذلك حتى في الاغنيات المسموعة التي يقدمها جاليلو فتظهر فيها بصمته الموسيقية الواضحة.
صوت محمد عبدالجليل يصل الى مناطق لا تصلها (الحناجر) – لذلك هو يتحرك في منطقة لوحده… يملك ان يحلق بك على ارتفاع بدون اجنحة.
(4)
بغم
عندما اشاهد مثل هذه المشاريع ادرك اننا سوف نعبر وننتصر ونغني.
سنغني.
وسيصرخون.
نحن لن نعبر بالسياسة .. نحن سوف نعبر بالفن.
وكل الطرق تؤدي الى (المدنية).
صحيفة الانتباهة